ثقافةصحيفة البعث

دمعة على الجار العزيز

بقلم: الدكتور محمود السيّد

ثمة حكم وأقوال مأثورة تؤكد الاهتمام بالجار ورعايته، وليس هنالك أسمى من الحديث النبوي الشريف القائل: «ظل جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
وما أجمل المثل القائل: «أعرف الناس بحالك ربك وجارك» ! وطالما رددنا القول المأثور «جارك القريب أولى من أخيك البعيد».
وترجع هذه التوصية بالجار إلى أهمية الجار الصالح في حياة البشر، وما يحتله من مكانة في تأمين الاستقرار والراحة النفسية، والمعاملة الصالحة لجيرانه.
ومما دعاني إلى تِبيان مكانة الجار فقدان جاري العزيز المهندس محمود عبد الله الأسعد، سليل الأسرة الوطنية المناقبية، عائلة الأسعد التدمرية الكريمة التي فقدت من قبل الشهيد خالد الأسعد على يد المجرمين الطغام بسبب مواقفه المبدئية، وانتمائه الأصيل إلى وطنه، ودفاعه عن حضارة تدمر الخالدة.
عرفت جاري الغالي المهندس أبا سامر «محمود الأسعد» منذ أربعين عاماً تقريباً بحكم الجوار السكني، فكان نعم الجار مناقب رفيعة، وأخلاقاً فاضلة، وقد عرفت فيه النبل والشهامة، والإخلاص في العمل، والتفاني في أدائه، والاستقامة في ممارسته، والتعامل الحضاري الراقي.
وعرفت في الوقت نفسه شريكة حياته المربية الفاضلة المرحومة المعلمة نادرة الخالد «أم سامر» التي توفيت قبل رحيله بعامين تقريباً، وقد شاركته مرَّ الحياة وحلوها، وكان الزوج المثالي الوفي والبار، إذ لم يكن ذكرها يفارق مخيلته في كل الأوقات والأحايين، وكانت دموعه تسبق كلامه عند ذكرها.
وقد شاركته في بناء عمارات بشرية تعتز بها الأخلاق، ويفتخر بها الوطن، وقد ربَّاهم الأب أبو سامر، وأمهم على الفضيلة والجدية ومحبة العلم، فكان منهم الصيدلاني سامر، ويحمل أيضاً شهادة الماجستير في إدارة الأعمال، والمحامي زاهر المختص في القانون المدني، وقانون الشركات، وسمر التي تحمل الإجازة في الاقتصاد، وندى مدرسة مادة اللغة الإنجليزية، وتزين اختصاصاتهم كافة الأخلاق الكريمة، والمناقب الرفيعة، والتهذيب الجمّ.
لقد كان المرحوم مجلياً في جميع المهام التي قام بها عبر مسيرة حياته، وأنجز هذه المهام بكلّ جدارة وعناية واهتمام بعد أن وهبها جلّ وقته، وقد قيل عنه إنه رجل المهمات الصعبة، فقد عمل مدير البحوث والدراسات في وزارة الكهرباء، وأسهم أيما إسهام في مشروع تنوير الريف بمعية الوزير الدكتور أحمد عمر يوسف رحمه الله، وإليه يرجع الفضل في بناء مشروع التوتر العالي KV400، ولا يمكن أن ننسى يده البيضاء خلال أزمة قطع الكهرباء التي حدثت في ثمانينيات القرن الماضي، فقد نجح في رفع التقنين خلال مدة قياسية، وقد أطلق عليه آنذاك أبو الكهرباء.
عمل المرحوم أيضاً مستشاراً للسيد رئيس مجلس الوزراء في الثمانينيات، وتمكّن خلال عمله من الربط بين مشروعات الكهرباء ومشاريع الزراعة التي أدت إلى رفع إنتاج القمح في أواخر الثمانينيات.
ومن المهام النبيلة التي أداها فقيدنا الغالي أن كان مديراً لمنشأة سد تشرين، وقد أنجز بناء هذا السدّ خلال فترة قياسية.
وإلى جانب بناء السدود التفت إلى بناء البشر، فعقد دورات تدريبية مجانية لأهالي المنطقة المتاخمة لسد تشرين، وأسهم هذا العمل الرائع في رفع اقتصاد تلك المنطقة، وأدار شركة استصلاح الأراضي التي أنجزت أعمالها في فترة قياسية لم تزد على خمس سنوات.
لكم أكبرت انتماءَك الوطني أيها الفقيد الغالي، إذ إنك لم تغادر مسكنك إبان الحرب الظالمة على وطننا الحبيب، مع أن سكننا يقع في المنطقة الساخنة التي كانت تتعرض لهجمات الإرهابيين، وأعمالهم الإجرامية، وكانت أمامك خيارات متعددة للانتقال إلى مكان آخر، ولكنك ظللت مصراً على البقاء، متمسكاً بتراب وطنك، ومتجذراً بأرضه.
لقد افتقدت برحيلك يا أبا سامر الأخ الوفي المخلص بكل ما تحمله كلمة الأخوة من معان سامية.
افتقدت شهامتك ونبلك ولهفتك ومساعدتك للآخرين، وما من أحد طلب منك طلباً إلا لبيته له بكل نفس راضية، وما من محتاج إلا وقدمت له يد العون والمساعدة، فكنت تعمل بصمت.
افتقدت جلساتك الممتعة، وحديثك العذب، وتحليلك المنطقي للأحداث، وآراءَك الناضجة.
رحمك الله أيها الفقيد العزيز الرحمة الواسعة، سعة ما قدمته لوطنك الغالي من أعمال جليلة، وأدعو الله أن يسكنك فسيح جناته، وأن يلهم أبناءَك وذويك ومحبيك الصبر والسلوان، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.