الإعلام والثقافة اللا نقدية
أثار السيد الرئيس بشار الأسد في المقابلة مع قناتي السورية والإخبارية السورية موضوعاً ثقافياً بالغ الأهمية عندما قال، في معرض حديثه عما يعيق دور الإعلام في محاربة الفساد: “نحن بثقافتنا لا نحب النقد”.
هذه الإشارة يمكن أن تكون مدخلاً لأسئلة كبرى ربما كان أهمها: لماذا؟، ومن المسؤول عن ذلك؟، وهل هذا يتعلق ببنية الثقافة العربية، أم بالفعل التربوي كما يمارس في مختلف المؤسسات المعنية، ولا سيما الأسرة والمدرسة والجامعة…، أم بالثقافة والتربية معاً، وفي هذه الحالة الأخيرة، ألا نكون أمام سؤال ثقافي وتربوي بامتياز، ولكنه سؤال سياسي أيضاً، لأن السلطة في دولنا العربية تخشى من الثقافة الناقدة عموماً، والإعلام الناقد بشكل خاص، وتعمل على تهميشه وإضعافه وصولاً إلى قمعه إذا اقتضى الأمر، وهذا ما يؤدي إلى تجويف الإعلام، ومصادرة دوره، وتحويله إلى قطاع مدجّن في خدمة السلطة (تبرير سياساتها الخاطئة، والتغطية على فسادها…) مما يُلحق خسارة فادحة بالدولة، إذ يحرمها من أمضى أسلحتها الرقابية، ويُحدث شرخاً عميقاً بين الإعلام والمجتمع…
وقد لا نبالغ إذا قلنا: إنه إذا كان النقد لا يلقى الترحيب من ثقافتنا عموماً، فإنه، في ثقافتنا السياسية، يُعد من الممنوعات، حيث يعتبر المسؤول أن أي نقد يستهدف عمله، إنما يستهدف شخصه مثله مثل القدح والذم. أما إذا كان النقد يستهدف فساده، فعندها يصبح جريمة كبرى وخيانة عظمى بحقه وحق الوطن !. وكما أن مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث وُجد لمنع الحكام من التعسّف في استعمال السلطة، فإن الإعلام كان السلطة الرابعة التي يشكّل دورها الرقابي المستمر الأداة المثلى لمنع فساد المسؤولين في أي موقع كانوا، وحمايتهم من أنفسهم، فالسلطة مفسدة كما يقال، ولا مجال للتعويل على الأخلاق أو غيرها لتحصين المسؤول من إغراءاتها المتنوعة…
واليوم نرى الخلاف مستمراً على أشدّه بين من يحمّل الثقافة العربية جزءاً كبيراً من المسؤولية عن غياب النقد، بل “استقالة العقل”، وتكريس بيئة حاضنة للتخلف والفساد، وبين من يرى أن المشكلة تكمن في التخلي عن ثوابت تلك الثقافة وأنساقها التقليدية والسقوط في فخ التغريب. كما نرى الخلاف مستمراً أيضاً بين من يعتقد أن التربية مسؤولة عن خلق البيئة الحاضنة للتخلّف والفساد، لأن هدفها ينحصر في التلقين، وتحويل العقول إلى مجرد أوعية وخزانات لحفظ ما يُصب فيها من معلومات وأفكار، بدلاً من التركيز على تحريض العقل وتعليم التفكير النقدي والمنهجي، وبين من يرى أن التربية هي ضرب من تلقين اليقينيات غير القابلة لأي نوع من أنواع التمحيص العقلي ولا سيما الشك والنقد… والخيار الذي نحتاجه واضح، وهو الانحياز إلى البعد العقلي والنقدي في الثقافة العربية، وإعادة الاعتبار للمثقف الحر لتطهير البيئة الثقافية من أشباه المثقفين الذين ينتجون ثقافة الانحطاط والنفاق والانتهاز، وإعادة النظر بمفهوم التربية وهدفها، فليس أسهل من حشو أدمغة الناس بالمعلومات والأفكار، وتعويدهم على التسليم والإيقان بها مهما كانت خاطئة ومنافية للعقل، بل ومضرّة إذا تحوّلت إلى فعل، ولكن النتيجة الكارثية لذلك هي ما نراه من فقدان العقل ملكاته النقدية والمنهجية، وانتشار الذهنية الخرافية، والتعصّب للمطلقات واليقينيات الفاسدة…
إن غياب الحس والتفكير النقديين لهو دليل قاطع على عدم سلامة البيئة الثقافية، ولذا فلا بد من معالجة الآفات الثقافية والتربوية التي تسمم هذه البيئة، وتُحوّل النقد إلى فعل مكروه، وتقضي بالتالي على دور الإعلام الذي لا يستحق اسمه ما لم يكن إعلاماً ناقداً. ولا شك أن الإعلام هو ابن بيئته، وغالباً ما يتأثر بسلبياتها، لكن للإرادة السياسية كلمتها هنا. فإذا كنا نريد إعلاماً ناقداً وذا دور أساسي جداً في محاربة الفساد كما أكد الرئيس الأسد، فلا بد إذاً من إطلاق الفعل النقدي من الأسر الاجتماعي والسياسي وحتى الإعلامي. ولعل الإعلام هو الأقدر بحكم طبيعته ووظيفته على تحطيم قيود النقد وفتح الباب أمام خلق ثقافة نقدية بديلة نحتاجها لمحاربة الفساد والوقاية منه، كما نحتاجها لجسر الهوّة بين الإعلام والجمهور، وبين السلطة والمجتمع.
محمد كنايسي