مدوّنة السلوك الحقيقية
لم يكن أحد في العالم ينتظر اعتراف “تولسي غابارد” المرشّحة للرئاسة الأمريكية كي يتهم ترامب بـ”سلب النفط السوري” لأسباب عدة، منها أن السلب والنهب هما سمتا “الامبراطورية” بغض النظر عن اسم الحزب أو الرجل الذي يحكمها، ومنها أن ترامب ذاته أعلن ذلك شخصياً، لأنه “يحب النفط” كما قال، دون أن يقيم وزناً لأي اعتبار أخلاقي أو قانوني أو لمجتمع دولي وأمم متحدة ومجلس أمن مازال، وسيبقى، صامتاً عن هذه “البلطجة” صمت القبور.
بهذا المعنى لم يكن استيقاظ ضمير “غابارد” – بما تمثّل كونها عضواً في المؤسسة السياسية الأمريكية – اعترافاً أخلاقياً وحقوقياً بأن “هذه الموارد النفطية تعود للشعب السوري”، بل هو مجرد أداة أخرى من الأدوات التي تستخدمها مرشّحة للرئاسة في موسم انتخابي قاس طويل، وبالتالي فليس لهذه “الاستيقاظة” سوى أن “تغزل” على منوال “مغزل” ترامب ذاته حين تردّد مرات عدة بين الانسحاب من سورية ثم التراجع عن ذلك، فالانسحاب، كما التراجع عنه، يندرجان ضمن السياق الانتخابي ذاته، وهو سياق يحفل بمواجهة شرسة للمرشح، سواء مع جمهوره الخاص وجمهور حزبه العام، أو مع اللوبيات الحاكمة والدولة العميقة، لكن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أمرين، الأول أن ترامب هو “أفضل رئيس أمريكي” لأنه الوحيد الذي يظهر “الامبراطورية” عارية من ثوبها الأخلاقي المزيف، والثاني أهمية اعتراف “غابارد” بأن نهب ترامب “يمثّل مثالاً ودليلاً جديداً لعملية الاستيلاء المنفّذة بأسلوب حديث، والتي تجري في سورية منذ العام 2011، وتحرم الشعب السوري من المصدر الأساسي للموارد والطاقة التي يحتاجون إليها من أجل البقاء على قيد الحياة، وكذلك لبدء إعادة بناء حياتهم”.
بيد أن الخطير في الأمر ليس “النهب” أو التراجع عن قرار الانسحاب بحد ذاتهما، بل في انعكاساتهما المتوقّعة على الساحتين الداخلية والاقليمية، وأولها استعادة العملاء الأمريكان، في المنطقة وفي الداخل السوري، نغمة التشدّد ومعزوفة الرهانات الخاطئة، وهذا ما تلمّسنا آثاره في بيانات ميليشيا “قسد” المتتالية التي أخذتها “العزة بالإثم الأمريكي” لتتشدّد أكثر، وتستعيد أوهامها المستحيلة، وثانيهما أن “البعض” قد يدفع لتحويل “اللجنة الدستورية” – بطبيعة الارتهانات المعروفة لفصيل معتبر من مكوّناتها – إلى مجرد سيرك سياسي يستخدم، إما “للفرجة” وتقطيع الوقت، أو لـ”النصب” لاحقاً على مخرجاتها النهائية استناداً إلى قوة الاحتلال الأمريكي ومعه التركي بطبيعة الحال.
بهذا المعنى سنكون في المرحلة المقبلة أمام حرب مركّبة، عسكرية واقتصادية وإعلامية، حرب يبرز جانبها العسكري كمعركة تحرّر وطني من احتلالين متفقين، حكماً، في الاستراتيجيا والتكتيك ومعتمدين معاً على أدوات إرهابية معروفة، ويكون حقل الإعلام فيها – باعتباره عملية صناعة وعي متكاملة – حقلاً مركزياً للتفرقة الضرورية بين الوطني والعميل وتبيان مصير الأخير، حتى عند سيده، بعد انتهاء مهمته، وعلى ضوء نتيجة المعركتين السابقتين ستحسم بالتأكيد معركة الحقل الاقتصادي لاستعادة سلة سورية الغذائية والنفطية المنهوبة، وبالتالي قضايا إعادة الإعمار و”معيشة” الناس ومعاشهم واجتماعهم الوطني، وتلك، كي لا نخلط الأمور، تحتاج أيضاً إلى مساندة من معركة داخلية حاسمة ضد الفساد والفاسدين.
وبهذا المعنى، ولمرة جديدة، ليست اللجنة الدستورية، على أهميتها وضرورتها البالغين، “لحظة تاريخية” كما يقول البعض، فهذه “اللحظة” لن تكون تاريخية وجديّة ومثمرة بحق – بصرف النظر عن كلام منمّق من قبيل: “بقيادة وملكية سورية” – إلا بالاستناد إلى “اللحظة” التي يبدأ فيها الجانب العسكري من هذه الحرب المركّبة على صورة مقاومة شعبية – مدعومة من الدولة – لمطامع المحتلين فارضة تبدّلاً في علاقات العنف والقوة والتبعية والاستزلام، والأهم، في معادلات الربح والخسارة التي يفهمها جيداً تاجر مجرّب مثل ترامب، وبالتالي هي وحدها، في ظل موازين القوى العالمية وسقوط القانون الدولي، من ستحدّد له، ولغيره، “مدوّنة السلوك” الطبيعية، ومن سيقول له، ولغيره بصوت مفهوم، ومسموع حكماً: إن سورية، بجغرافيتها وثرواتها وعمرانها، للسوريين فقط لا غير.
أحمد حسن