ثقافةصحيفة البعث

“فوضى”.. سينوغرافيّا تجريدية لثيمة واقعية

 

مسرحية “فوضى”–عبد المنعم عمايري/رائد مشرف-، إنتاج وزارة الثقافة- مديرية المسارح والموسيقا بالتعاون مع الاتحاد الوطني لطلبة سورية، الجاري عرضها على خشبة مسرح “الحمرا”، تقترح تنويعات بديعة على مستوى الأداء؛ من يُشاهد العرض يشعر أنه كان في منافسة إبداعية بين ممثلات موهوبات، كل واحدة منهن تريد أن تُقدم أفضل ما لديها وتنجح بما تقدمه؛ الإلقاء الصوتي على أفضل حال، والاستفادة من أبعاد المكان بعلاقتها مع البعد “الركحي” لتطورات ومكاشفات كل شخصية، أيضا جاءت مشغولة بحرفية تكشف جهدا إخراجيا لا بد أنه يعتني بكل التفاصيل، طبعا على مستوى التعامل مع الممثل والأداء، ولكن على مستوى “المكان، الإضاءة”، وغيرها من تفاصيل السينوغرافيا، هذا إذا أردنا النظر إليها من وجهة نظر إبداعية هدفها أن تخدم العرض وليس أن تُعرقله، فقد جاءت السينوغرافيّا دون مستوى الأداء. في قصة تدور داخل مشفى “أمراض نفسيّة” بين شخصيات هم نُزلاء هذه المستشفى، فإن الرمز والتجريد والتغريب، متحقق وماثل بطبيعة الحال، لا يحتاج إلى عكازات لكي يسند ذلك ويدعمه، بل إنه يحتاج إلى سينوغرافيّا من أثاث وأغراض مفرطة في الواقعية، وذلك لكي تُعدل قليلا من إفراط هذا الخيار الغرائبي، فنحن إذا أردنا أن نشجب ما هو غريب ونافر نقول: “هذا جنون”.
أما أن يُضاف زيادة على ذلك بعض الأثاث “التغريبي”، مع خيارات على مستوى الإضاءة والألوان المفعمة بالأزرق والأبيض، ما يوحي بأن الشخصيات أو الوضع بارد وشاحب، في حين أن كل شخصية تُحقق “كارثة” متنقلة على مستوى الآلام، وما تعرضت له، كان يمكن لهذه الخيارات اللونية في الإضاءة والديكور، أن تُحقق تناقضا مع الشخصيات بطريقة تُظهرها بشكل أوضح على خلاف الأرضية اللونية الباردة، لكن ذلك يفشل بشكل قاطع لأن الشخصيات التي تُقدمها الممثلات ترتدي الأبيض، وهذا ما يجعلها في تماه مع السينوغرافيّا الباردة؛ إذا كان تغيير لون الملابس أكثر دفئا، سوف يجعلها بعيدة عما نعرفه من لباس نُزلاء هذه الشخصيات في الواقع، فهذا يزيد الطين بِلّة، لأن هذا يعني أن السينوغرافيا تلتزم بالواقعية في الملابس، وتذهب إلى أقصى درجات التجريد في الديكور والإضاءة، وإذا أخذنا بالاعتبار أن الملابس جزء من السينوغرافيا، فذلك يعني فصام سينوغرافيّ.
المشكلة السابقة جاءت من النص، هناك استسهال في اختيار مكان القصة، إذ تحدث في مشفى نفسي، والمكان من تفاصيل النص وليس من تفاصيل الإخراج؛ إن ثيمة المكان الواحد الذي يجمع عددا من الشخصيات، من خلال الصدفة، مثل بيت عربي، أو سفينة، أو فندق، سجن، حارة، وغيرها، تُعتبر من الثيمات الضعيفة، لأنها تكشف أن الكاتب لا يريد أن يبذل جهودا في بناء علاقات بين الشخصيات، فقد حدث أن جمعها المكان وكفى، ونقطة الضعف هذه تُحل عادة من الكُتّاب الكبار بطريقة تخفي نقطة الضعف هذه، فعندما كتب الروائي البرازيلي الكبير “خورخي امادو”-1912-2001- روايته التي تحمل اسم مكان الحدث “فندق 68″، فإنه نجح بإنشاء وبناء علاقات بين شخصيات الفندق والعالم الخارجي، وفي الفيلم المصري “البداية”، يُقدم لنا النص علاقات بين شخصيات طائرة منكوبة، هبطت اضطراريا في الصحراء، ونشأت علاقات بين الشخصيات التي كانت على متنها، والكاتب خرج من نقطة ضعف “المكان الذي يجمع الشخصيات صدفةً” بأن قام بتطويرّ مصائر الشخصيات، وجعل حادث الهبوط الاضطراري للطائرة، هي التي تكشفهم، وليس فقط أن جمعوا في طائرة واحدة، وعندما قدم “زياد الرحباني”-1956-“فيلم أمريكي طويل”–وأحداثه تجري بالمناسبة في مصح نفسي- فإنه قد جعل الشخصيات لا تنتمي لعالم المصح، مثل “الممرضة” الشخصية المحورية في القصة، وهي حاضرة وتُساعد على تقديم المقولة في النهاية، والأمثلة تطول في عوالم القصة عن هذه النقطة بالذات، سواء كانت رّوائيّة أو دراميّة، لكن في مسرحية “فوضى”، فإن السؤال المهم الذي يُطرح عن المكان هو: لماذا في مستشفى نفسي، وليس في سجن نساء أو في حافلة تعطلت عند تحويلة حمص مثلا؟، أو مركز ما، مُحترف أو مشغل، وقائمة الأمكنة الّتي لا تبرّر العلاقة مع القصّة تطول، لأنّ الشّخصيّات هُنا يتّفق أن تظهر جميعها على درجة من الأهميّة، مما جعل العرض يقدم “ستّ” شخصيّات متضاربة تصلح كل منها لأن تكون بمفردها محوراً لنصّ مسرحي يُفاقم من هذه المشكلة عدم تفاوت أهميّة الشّخصيّات،فلا يعقل أن نعثر بين أي ستّ شخصيّات في مصحّ نفسي،على ستّ شخصيّات تصلح لأن تكون جميعها دراميّة.
البروشور منفرداً،وبعيداً عن السينوغرافيا،ينتقي لوناً كان جيّداً للعرض،فيظهر عليه ألوان دافئة،ولكنّ تلك ميزته الوحيدة،لأنّ الأغلال أو “القفل” الّذي يشكل “شخصيّة” البروشور،وملمحه البصري الأوّل،يحاول جاهداً أن يقدّم المقولة،بأن يعرض مع السلسلة “الجنزير” لسان حال تلك الشّخصيّات،وهذه بمفردها مقولة فرعيّة،وليس مقولة كُبرى للنصّ، كأن نقول:إن هذا المستشفى -مثلاً-لسان حال للمجتمع.
الممثلون: نجاة محمد، غزل حنون، هبا ديب، ميس ضو، مريم زمام، وفاء الحسين، سينوغراف: سعيد حناوي.

تمّام علي بركات