“صخب ونساء وكاتب مغمور”: الواقعيّة الخلّاقة
هناك اتجاهات أدبية عديدة يقترن اسمها بالواقعية، مثل “الواقعية الاشتراكية، الواقعية الجديدة، الواقعية السحرية، وغيرها”، والآن أصبح بإمكان الأدب العربي أن يقول إنه قد صدر من بين أدبائه اتجاها أدبيا واضحا يرتبط بالواقعية؛ إن صعوبة تصنيف هذا الاتجاه هو وضوح واقعيته، فإلى أي واقعية يُنسب؟ الورطة أن فيه ملامح من جميع “الواقعيات”، وفيه أيضا ملامح من الرواية “الأيروتيكية”، الرواية الساخرة، الكوميديا السوداء، الرواية البوليسية، الرومانسية، السوسيولوجيّة، الفانتازية، وأيضا من السريالية، هذا الاتجاه الأدبي البديع يختزل كل ما سبقه من الاتجاهات، دون أن يتنازل للحظة عن الخوض في أوحال الواقع، والسير بالقارئ إلى متاهات ومجاهل المدينة العربية المعاصرة؛ إذا كان هناك من رواية واحدة يمكننا أن نعتبرها ميلادا لهذا النوع، فإنها بامتياز وبلا تردد الرواية الصادرة في سنة 2005، بعنوان “صخب ونساء وكاتب مغمور” تأليف الروائي الكبير “علي بدر”.
لنتوقف مع هذه الحبكة: “عباس” خلال تواجد وفد مغربي رياضي جاء إلى العراق للمشاركة في واحدة من الأنشطة الرياضية، يتعرف على فتاة مغربية سمراء ترطن بالفرنسية، يقعان في الحب ثم يتفقان على الزواج، على فرض أنها ستسبقه إلى طنجة، وتُرسل إليه ألف دولار، تكاليف لحاقه بها، وذاك إلى عش الزوجية المزمع، ثم يبدأ بمراسلتها يطلب إليها أن تُرسل إليه المبلغ بالسرعة اللازمة ليتمكن من اللحاق بها، ودائما تردّ عليه بأن يتدبر المبلغ، وعندما يصل لعندها تعوضه؛ من الذي سيساعده في ذلك؟ إنه “الكاتب المغمور” بطل الرواية، على أمل أن يلحق به هو الآخر، ليتمكن هناك من تحقيق أحلامه في الكتابة والشهرة والثراء، “الكاتب المغمور” موجود على هامش الحبكة بطريقة بائسة، لكنه متورط فيها، ولديه أمل بعيد جدا، فيتعرف على “وليد” وهو شاعر مزيف ونصاب، يدعي بأنه ابن الشاعر اللبناني “سعيد عقل”، فيقوم هذا الشاعر المزيف بخداع “عباس” وإقناعه ببيع محله لتصليح الساعات بـ 500 دولار، وليشتري بالمبلغ سجادة ثمينة ليبيعها بألف دولار، وذلك بمباركة وبتشجيع الكاتب المغمور، لكن السجادة تُسرق، ويتلاشى حلم عباس والكاتب المغمور، الأخير عندها يُضحي بكل ما يملك، فيقوم ببيع الأستوديو الصغير خاصته بـ 1500 دولار، يُبقي 500 معه، ويعطي 1000 إلى عباس ليطير بها إلى طنجة، وبعدها يصله الجواب المرير من “عباس” وهو أنه لم يجد لا الفتاة المغربية ولا عنوانها، فالعنوان الذي اعطته إياه غير موجود، ومما يزيد الطين بلة بالنسبة للكاتب المغمور، أن “عباس” الذي في المغرب، يُقبض عليه في وكر للصوص ومُهرّبي “الحشيشة”، كما تَشك به الشرطة المغربية بشبهة التجسس، ثم يُطلق سراحه بعد أن تظهر براءته، عندها يُحبط بطل القصة “الكاتب المغمور”، فيقرر أنه سيبدأ حياته الأدبية، في بغداد وليس هناك في طنجة، فالحال من بعضه، وهذه واحدة من مقولات الرواية.
إلى جانب محور “الكوميديا السوداء”، السابق، هناك محور تراجيدية اجتماعية، يقع بجانب “الكاتب المغمور”، الذي خرج منذ زمن قصير من حرب ضروس امتدت لسنوات طوال في بلده، إنها قصة “سعاد التركمانية”، وهي بائعة هوى في البيوت الرخيصة، تترقى وتنقل بضاعتها إلى البيوت الارستقراطية، ثم تتزوج شخصا ذا شأن، وبعد موته تشح أموالها وتطرد خدمها، وتبدأ بالتفتيش عن عشيق ثري آخر فلا تعثر عليه، لتعود للعمل في البيوت الرخيصة، ولتتزوج سائق عشيقها السابق الذي يفتخر في الحي البائس بأن زوجته “سعاد التركمانية” كانت زوجة “فلان”، ثم تبدأ في سلسلة من الشجار معه، تعيره بفقره ويعيرها بماضيها.
وإلى جانب الحبكتين السابقتين، نمرّ على شخصيات مبهرة، يُقدمها الكاتب تستحق كل منها أن تظهر في عمل ادبي منفصل بذاته يدور عنها، ولا بد من طرح سؤال نقدي على هذه الرواية، لأن هناك رواية لنفس الكاتب صدرت في عام 2001 تحت عنوان “بابا سارتر”، قبلها بأربع سنوات، وتتفوق عليها في الاكتمال ووحدة الموضوع والبعدين الفكري والاجتماعي، بل هي من حققت لكاتبها شهرته الأدبية، فلماذا ينسحب خطوة إلى الخلف، لكتابة رواية أقل مستوى من سابقتها؟ صحيح أن الشخصيات أكثر غنى وتنوعا، ولكن سابقتها تتفوق عليها، فلماذا؟
قد يكون الكاتب يريد أن يقوم بتصفية حساب مع تجربته الشخصية، ولربما أراد أن يسخر من فترة مرت به، كان يعيش بها ضمن أُتون قصص مروعة وأخاذة، دون أن ينتبه أنه في منجم أدبي، ولاحقا سيشتغل على عدد من الروايات بالاعتماد على شخصيات “صخب ونساء وكاتب مغمور”.
يمكن اقتراح اسم لهذا الاتجاه الادبي، الذي جاء إلينا من العراق أيام الحصار الأمريكي الغاشم، فلا بد أن نُطلق عليه اسم “الواقعية الخلاّقة”، لأنه يُقدم الواقع بأمانة ليس وفق مبدأ “جَلد الذات”، بل بطريقة الدراسة والتأمل بأسلوب مشوق وأدبي رفيع.
“صخب ونساء وكاتب مغمور”، من الروايات التي لن يستطيع القارئ التوقف عن قراءتها كلها دفعة واحدة ، فالموضوع العميق الطرح، والأحداث الخاطفة للأنفاس، والشخصيات المرسومة بعناية ورشاقة الأسلوب والمقولة، كلها تعمل على شدّ القارئ من كل ما فيه، ليكمل القراءة، قبل أن يقرر أنه يجب أن يُعيد قراءتها مرة ثانية وثالثة أيضا.
تمّام علي بركات