من وحي تشرين التصحيح
الدكتور سليم بركات
لم تكن سورية في يوم من الأيام واحدة من الدول التي يقبل شعبها أن يرسم له الآخرون حاضره، ومستقبله، لا لسبب إلا لسبب واحد وهو امتلاك هذا الشعب لثقافة ريادية حضارية، ليس على صعيد المنطقة فحسب، وإنما على صعيد الحضارة الإنسانية، وإذا كان حزب البعث العربي الاشتراكي مفجر ثورة آذار قد لبى نداء الشعب العربي، وفي الطليعة الشعب السوري، فلأنه انتقل بسورية من حالة الانفعال مع الواقع إلى حالة التأثير في هذا الواقع، بل امتد هذا التأثير بالذات العربية الثورية إلى أن تكون قادرة على متابعة الأحداث والتطورات لضبطها وتوجيهها بالاتجاه العروبي الصحيح.
لقد استقامت ثورة البعث بالحركة التصحيحية التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد على الصعد كافة، وفي جميع المجالات، استقامت بسياستها العربية الفاعلة، وبمواقفها الدولية التي تؤكد أهمية السيادة والاستقلال، وهل نبالغ إذا قلنا إن البعث بفعل هذه الحركة قد جعل من سورية دولة مستقلة في منطقة عزّ فيها الاستقلال، كيف لا وقد أدخلت هذه الحركة في جسد الجمهورية العربية السورية إصلاحات بدأت بحزب البعث العربي الاشتراكي، وشملت ترسيخ سلطة الدولة الوطنية القومية لتحصينها من الصراعات الداخلية كي تسود حياة الاستقرار، وتنتهي حياة الانقلابات العسكرية، إصلاحات شملت الأوضاع السياسية، ووطدت السلطة بقيام الجبهة الوطنية التقدمية، وبوضع دستور جديد للبلاد، وإقرار قانون الإدارة المحلية، وبالتالي انطلقت الإنجازات على جميع المستويات، لتصبح سورية في مكانة متقدمة نقلتها نحو التطوير والتحديث.
لقد جاء قيام الحركة التصحيحية في إطار نهج سياسي قائم على استراتيجية حشد الطاقات استجابة لإرادة جماهير الشعب في مجابهة التحديات القائمة، وفي طليعتها التحدي الصهيوني، وتحدي العزلة التي كانت تعيشها سورية في ظل عقلية التطرف والمناورة التي تحكمت بقيادتها، الأمر الذي شكّل نقطة تحول تاريخية في مسيرة حزب البعث العربي الاشتراكي، أكان ذلك من خلال علاقاته بالجماهير العربية وقواها الوطنية التقدمية، أم من خلال مسيرة سورية العربية على طريق دورها الوطني القومي المنفتح على الدول العربية نحو التعاون والتضامن العربي وتعزيزه، وقد تجلى ذلك بالبيان الذي أصدرته القيادة القطرية المؤقتة بقيادة القائد المؤسس حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني عام 1970، والذي أعطى أهمية كبيرة لتنمية الوضع الداخلي، وإقامة النظام السياسي المستقر المستند إلى الشرعية الدستورية، والمستكمل لمؤسساته الرسمية الشعبية.
كان من أهم إنجازات الحركة التصحيحية على الصعيد الوطني القومي العربي حرب تشرين التحريرية عام 1973 التي كانت قراراً عربياً بامتياز، كما كانت من أولويات واهتمام القائد المؤسس بامتياز، حتى كانت الظروف الملائمة لها بعد توفير متطلباتها الداخلية العربية والدولية، ولاسيما في مجال إعداد القوات المسلحة بالمشاركة مع مصر العربية، وفي مجال التضامن العربي، والتنسيق مع الأصدقاء، وفي الطليعة الاتحاد السوفييتي السابق، زد على ذلك ما حققته هذه الحركة من إنجازات على الصعيد الاقتصادي، حيث شهدت سورية تطوراً كبيراً شمل جميع جوانب الحياة الاقتصادية، وتأسيساً على ذلك أطلقت التعددية الاقتصادية، وشجعت المبادرات الخاصة، وأتيحت الفرص أمام جميع أفراد المجتمع للإسهام في تنمية المجتمع، كما أتيحت الفرص أمام جميع أفراد الشعب للإسهام في التنمية الاجتماعية، ولاسيما في مجال الصناعة والتجارة، والزراعة، والري، بالإضافة إلى مجالات التعليم، والثقافة، وغيرها من المجالات التي حققت تطوراً كبيراً في تحسين حياة الشعب ومستوى معيشته، أكان ذلك على مستوى المدينة، أم على مستوى الريف، زد على ذلك أيضاً التطور الكبير الذي حدث في مجال تعزيز دور المرأة من خلال إصدار التشريعات التي تساويها مع الرجل في مجال الحياة العامة، بالإضافة إلى التطور الكبير الحاصل في مجال القضاء على الأمية، وفي قضايا تأمين سوق العمل لليد العاملة، لاسيما لحملة المؤهلات العلمية، إلى جانب الاهتمام بموضوع الأجور، والوضع المعيشي، والصحي، والسكني، والخدمات العامة التي تبدأ بمياه الشرب، وتوفير الكهرباء، وغير ذلك من حاجات.
جلّ اهتمامات الحركة التصحيحية كان منصباً على بناء الإنسان، لأن في مثل هذا البناء يكون بناء الدولة الحديثة، لتصبح دولة المؤسسات والقانون القادرة على أن تنتج دولة مكتفية ذاتياً، ومحققة للأمن والاستقرار، دولة قادرة على مواجهة التحديات، وفي طليعتها تحدي الاحتلال الإسرائيلي ومقاومته حتى تتحرر فلسطين، ويستعيد الشعب العربي الفلسطيني حقوقه المشروعة في أرضه ووطنه.
بقي أن نقول: لقد تعاظم دور سورية بقيام الحركة التصحيحية في المنطقة العربية، وعلى المستوى العالمي في مواجهة أعداء العروبة، ولذلك حشدوا كل ما لديهم من طاقات لمواجهتها خوفاً من أن تنتقل عدوى استقلالها إلى غيرها من الدول العربية، لكنها واجهت ذلك بثقافة آذار، وبروح التصحيح، واجهت التحدي بالتحدي، وهي مستمرة في المواجهة بقيادة الرئيس بشار الأسد، وبمساندة شعب لا يقبل العبودية، وجيش لا يعرف سوى صناعة الانتصار.