محطّة للسّطوع
عبد الكريم النّاعم
من الشواغل التي ما تكاد تغيب عن البال، والتي تتكرّر وتتناسل، تلك الهجمة على مفهوم “العروبة”، متلطّية وراء شعار خطير هو: “سوريّة أوّلا”، ولكي لا أدخل في مماحكة مجّانيّة، أختصر فأقول نعم، سوريّة أوّلا، من أجل النهوض، والإعمار، والعدالة الاجتماعيّة، والبنيان الداخلي الذي لا اثر فيه للسوس الذي ينخر من الداخل،.. وسوريّة أوّلا من أجل المشروع القومي الذي هو الحصن الحصين حين يتحقّق، والذي سيكون من جمالياته أنّه يحتفظ لكلّ قطر بكامل خصوصيّاته المكوِّنة، بعيدا عن الشوفينيّة، والزّعم الاستعلائي المريض، وتمسّكا بكلّ قطبة من قطب النسيج الاجتماعي، كعلامة على التعدّد والغنى.
أرجو ممّن له موقف مناوئ أن لا يتعجّل في طيّ الصفحة، فما هكذا يكون الحوار، وسأتوقّف عند عدد قليل من العلامات:
-قيل قديما على لسان البعض مشوِّها، إنّ سوريّة في موقفها من فلسطين محكومة بالجغرافيا، وهذا قول يحمل سقوطه في منطوقه، فثمّة بلدان مُجاورة للأرض المحتلّة ولكنّ حكّامها كانوا أدوات في يد مَن يديرون المشروع الصهيوني ويحمونه، وما زالوا، فالمسألة ليست مسألة جِوار، على ما للجوار من أهميّة، بل هي مسألة وعي، وأهليّة في حمل الأمانة، ورؤية بعيدة، فثمّة مَن هو أقرب جغرافيّاً، وبعضهم في داخل الأرض المحتلّة، وما يزال يدافع عن أوسلو مثلا!.
– يستشهد البعض الآخر بموقف الشقيقة الكبرى مصر، وهي شريكتنا لعدّة أيام في حرب 1973، وربّما رأى البعض في مسْلكها القطريّ ما يجب أن يُتّبع، ولهؤلاء الذين يرون الحقيقة ويتجنّون عليها أقول، ما حال مصر؟! هل انتهى الفقر فيها، ولم تعد المقابر مكانا للسكنى، وهل انتهى الجوع، والجري وراء ما يسدّ الفم؟! ماذا قدّم هذا الغرب لمصر، بمن معه من مشيخات الأعراب؟! لقد قدّموا مالا يشكّل مشروعا للبناء والنهوض الوطني، لأنّ هذا محظور على غير إسرائيل.
– انظروا إلى خريطة الخراب العربي التي أُوقِدت في عام 2011 وسنجد أنّها تشمل البؤر العربيّة التي ربّما أومأت بوعد التحرّر، وأنّها قادرة عليه، ولنعدّد من المغرب إلى المشرق: الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، اليمن، سوريّة، العراق، فما بال المساحات الأخرى التي لا نتمنّى لها إلاّ الخير، لم يخطُ باتجاهها ذلك (الربيع) المزعوم؟! ما الذي حماها؟! لقد حماها شيء واحد هو أنّها فتحت من النوافذ باتجاه إسرائيل ما يجعلها على أتمّ وفاق!.
لا تنسوا أنّ الجزائر كانت قد دفعت أثمانا غالية حين نُشِر فيها ذلك الجراد التكفيريّ. -لماذا يأخذ الاستهداف صورة خراب قوميّ؟! أليس هذا دليلا على أنّ الدوائر العميقة ذات الصلة تنظر بحذر وخوف للصحوة القوميّة التقدميّة، بمعنى أنّ نظرتها لنا قوميّة بامتياز، وهاهم الآن، استباقا، وتمسّكا بما يُضمرونه قد اختلقوا مسألة الصراع المذهبي، كخطّة أساس من جهة، وكاحتياط من جهة أخرى، فإذا ما فشلوا في إيقاد الحريق الأوّل، فهم يحشدون مستلزمات حريق آخر، بحيث لا تنطفئ النّار، ويظلّ كلّ قطر مشغولا بإطفاء حرائقه، بما يتولّد من ذلك كالتركيز على شعارات تبدو سليمة، وهي محشوّة بالسموم.
– هنا لابدّ من ملاحظة أنّ مؤيّدي المشروع الصهيوني، وهم احتلاليّون بامتياز، قد انتقلوا من خطّة العمل عبر الأنفاق منذ إنشاء ذلك الكيان الصهيوني، بدعم من الرّجعيّة العربيّة،.. انتقلوا إلى إقامة حلف علنيّ، بالغ التعقيد والخبث معها، ولا يمكن الوقوف في وجه هؤلاء المُتخمين بالحقد والمال، إلاّ عبر مشروع قوميّ، واع، يتجاوز أخطاء الماضي وهناته، وعلى مَن لا يصدّق أنْ ينظر، كمثال إلى بعض ما جرى في تونس الشقيقة.
تمهّلوا قليلا أيّها المستسلمون لدوافع معقّدة، لا تؤدّي إلاّ إلى الخراب، والقطريّة المُغلَقة الفجّة.
aaalnaem@gmail.com