تحلية ريق!؟
د. نهلة عيسى
يتهمني بعض أصدقائي, بأنني احتفيت وحابيت زيادة الرواتب الأخيرة, رغم أنها لا تسمن ولا تغني عن جوع ما لم تقترن بضبط حقيقي وجدي للأسعار التي تتصاعد فوق جيوبنا كالشهب في السماء, وهي تهمة لا أنفيها, لأنها واقع حالي, ولأنها إلى حد كبير تعكس قناعاتي بأن الزيادة لها مدلولات سياسية, واجتماعية, واقتصادية, ونفسية, وهي بالتأكيد ليست مغارة علي بابا سواء ضبطت الأسعار أم لم تضبط, لأن البون سيبقى شاسعاً بين حاجاتنا وإمكانياتنا, ولكنها من وجهة نظري “بونبونة” كنا نحتاجها لتحلية الريق, وللتأكد أن الدولة ليست فقط قادرة, بل أيضاً منصتة, ومتابعة, ومهتمة, وهذا في الحروب أمر ليس باليسير.
لكن المشكلة, أن معظمنا يظن أنه إن فند أحدنا قراراً ما, ووجده صائباً, وصحيحاً, وفي زمانه ومكانه, فهو لا بد مقرب ومستفيد, وليس محتاجاً!؟ والحقيقة أن معظم من أسعدته الزيادة, أسعدته من باب الحاجة, خاصة وأنني أرى أن الجميع في الوطن يمثل الجميع, لأننا نسيج يتسع إلى شيء من الإضمار الشبحي أو الطيفي غير المرئي, حيث الكل في الكل, بجمالهم وعوارهم, وبالتالي من فرحوا كانوا نحن بكل ما نحن عليه, ومن امتعضوا كانوا أيضاً نحن, لكن القضية أننا نشاهد الأشياء فقط بمرآة الذات, لا بمرايا الآخرين, كل الآخرين, وفي مرآة الذات لن يعجبنا أحد, وسيبدو الآخرون المختلفون عنا بالرأي.. جحيماً, والحقيقة أنه إذا كان الجميع على خطأ فمن فينا على صواب!؟
نعم أنا احتفيت بالزيادة, لأنني رأيت فيها استفتاءً شعبياً على التمسك بأهداب الدولة, لم تتقصده الدولة, ولم يتقصده السوريون الذين سارعوا كعادتهم للتنكيت والتبكيت, وبأريحية, وبمشاعر المكتوب له عمر جديد, وهي مشاعر عكست جوهر هذا الشعب الذي اشتعلت الدنيا به وحوله ولم تقتله, وانهارت بيوته على جانبي دروبه ولم تطمره, والذي بكل براءة وسخرية الموقن بصدق ما يفعل, كان يمسح التراب عن الوجوه ليميز فيها ملامح الأهل والأحباب, ويتحسس يديه وقدميه, ويحصي أصابعه فرحاً, ثم يرفع الوسطى للمجرمين القاتلين!.
نعم, الزيادة كانت رسالة سطرتها الضحية الصامتة (سورية), وكانت الصرخة المخنوقة في ملجأ الصم, وقد وجدت حنجرة وصوتاً تخاطب بهما الدنيا عيناً بعين, وكان ضمير السوريين يدلي بشهادته أمام شاشات التلفزة, وهو يكسر طوق, ليس الصمت فحسب, بل الأكاذيب, والأراجيف, والتزوير, عن حقيقة ما يريد, وحقيقة ما جرى, عن تسع سنوات عجاف دفع فيها (ضريبة العروبة) من أمنه, وعمره, ورزقه, وذاكرته, وجدرانه, وأحبته, ومن وطنه, الذي كان يحسد فيه المرء ولو على مرقد عنزة!.
الزيادة على محدوديتها, هي رسالة للبعيد والقريب, فك فيها السوريون الجرح المختوم بالشمع الأحمر, وعروا أمام العالم أجمع “الهولوكست” الذي طبق مضاعفاً ومراراً على مدار تسع من السنين على السوريين, كما كانت قراراً يغني عن أطنان من الكلمات, وكلام من نمط ما قل ودل, أمام محكمة الزمن الرديء, حيث يصر القتلة على الجلوس في مقاعد القضاة!؟.
الزيادة والفرح بها, هو تحدٍ, قَلبَ فيه السوريون صفحات الحرب حرفاً بحرف, ثم رموا الصفحات كأعقاب السجائر في مقالب القمامة, فكل الحروب وساخة, ثم جلسوا في ظل أشجار التسامي على الوجع, يصطادون بالضحكات الغربان, ويغتالون بالأغاني صوت الريح تنعق بالخراب, ويؤكدون بالفرح بالملاليم, أنهم لم ولن يخلعوا رغم كل السخونة والحرائق.. الوطن, ويضعون قدماً, نعم الآن مجرد قدم, يقرعون بها باب الغد, يناولونه رسالة تقول: نحن هنا, لم نغادر, سنبقى هنا, ولن نغادر, فلا تضايقنا بالحكايات عمن غدر, وعمن فجر, وعمن يريد تجويعنا, وينتظر الأنين!؟ فقط أخبرنا عمن يقودون السفينة بيدين ثابتتين وسط حقل الألغام إلى بر السلامة, فقط أعلمنا عن هؤلاء الذين منحونا القوة على السير زرافات في الطرقات, لأنهم كانوا يحمون بالأرواح والأجساد كل شبر, وكل بسمة, وختموا الرسالة: رجال الله في الأمن والميدان أنتم السلام, وعليكم السلام, فأنتم العلاوة, وأنتم الفرح, وأنتم الرصيد الذي لا يغلبه دولار.