مع غيابها الإنتاجية الوظيفية.. تراجع في معدلات الأداء وانخفاض في المردود وفوضى إدارية عنوانها “التسيب”
يتخذ الحديث عن الإنتاجية في المؤسسات والشركات الإنتاجية شكلاً من أشكال السخرية، إذ إن مجرد التفكير أو الخوض والبحث في هذا المجال هو بالنسبة للبعض مضيعة للوقت، لأن الإنتاجية في رأيهم، وحسب الواقع الموجود في هذه المؤسسات، مساوية للصفر، أي معدومة مهما اختلفت المعادلات الحسابية، أو نتائج العائدية الربحية، فهل هذه النتيجة صحيحة، أم أن الواقع يقول عكس ذلك؟ وهل حقاً ما يطبق لدينا في هذا الاتجاه هو إنتاجية حقيقية، أم أنه شبيه بالإنتاجية كما يتراءى للذين أكدوا مراراً وتكراراً أن مؤسساتنا الإنتاجية أصبحت متاحف صناعية تغيب عنها صفة الإنتاجية، وحتى تسمية المؤسسات الصناعية؟!.
شهادات ناطقة
لا شك أن هروب الكفاءات العلمية من الوظائف العامة يؤثر سلباً على العملية الإنتاجية لعمل الشركة أو المؤسسة، إذ لا يقتصر هذا الواقع الوظيفي على موظفي الفئات الثالثة والرابعة، بل على العكس وجدنا في إحدى المؤسسات غياب مهندسين من كافة الاختصاصات لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع، والتزامهم بالعمل فقط يومين تحت ذريعة ارتباطهم بالعمل في القطاع الخاص خلال تلك الأيام التي يتغيبون بها، لأن الواقع المعيشي يفرض العمل على عدة جبهات، وفي المقابل عند طرح فكرة الاستقالة من الوظيفة الحكومية نجد الرد بأن راتب الوظيفة الحكومية لا يضر طالما أن الدوام معقول، ولا يشكّل ضغطاً عليهم، كذلك لم يخف عنا أحد الموظفين أن هناك عشرات الموظفين الذين لا يكتفون بالهروب من الوظيفة لساعات أو لأيام معدودة، بل تعدى هروبهم لأشهر دون أن يجدوا من يوجه لهم أي سؤال أو عقوبة أو فصل من العمل، في المقابل نجد آلاف الخريجين العاطلين عن العمل الذين يبحثون عن شاغر في الدوائر الحكومية المكتظة بأعداد لا عمل لها، ومستفيدة من هذا الراتب دون تقديم أي مقابل عملي في هذه الوظيفة، وعلى الرغم من كثرة القوانين الصادرة عن وزارة التنمية الإدارية، والتي تتعلق بالوظيفة العامة وإعادة هيكلتها، إلا أن شيئاً لم يتغير عليها منذ عقود مضت حتى اليوم.
إعادة هيكلة العام
وبين أشكال الفوضى الوظيفية، وأسبابها، والكوارث الناجمة عنها، أكد لنا محمد كوسا، “خبير في التنمية الإدارية”، بأنه من الملاحظ أن الموظف يداوم بشكل نظامي، لكنه لا يقدم عملاً أو أية قيمة إضافية لوجوده، أي أن مديره لا يوكل إليه مهام وظيفية، إذ يوجد الكثير من الموظفين أمضوا سنوات عملهم وهم في منازلهم، في المقابل هناك حالة من التسيب، حيث قد لا يداوم الموظف لأيام محددة في الأسبوع، أو حتى لساعات معينة خلال اليوم الواحد، وأرجع كوسا أسباب ذلك إلى عدة أمور، أهمها الحافزية الضعيفة للموظف تجاه العمل، أي عدم الاقتناع بالعمل الذي ربما تكون طبيعته غير متناسبة مع قدراته الفائضة أو القليلة، أما السبب الثاني فمرتبط بالفساد الحقيقي، وارتباط الموظف بأعمال أخرى خارج القطاع العام، مع احتفاظه بوظيفة القطاع العام كضمان لمستقبله في حال فقدان عمله الخاص، وقدم كوسا حلاً لمعالجة هذه الظاهرة بإعادة تقييم وضع العمل الوظيفي في القطاع العام، وهذا يعني إعادة النظر بهيكل الوظيفة العامة كلياً من خلال إعادة توزيع العمالة، ورسم خطوط جديدة لها، وإيجاد خرائط، وتوزيعها وفقاً لمتطلبات الواقع الحالي، ورسم ملامح الوظيفة العامة المناسبة لاقتصاد البلد الحالي، واقتصاد ما بعد الحرب، وهذا يعني أنه على الحكومة أن تفكر بإيجاد لجنة أو مجلس أو هيئة تهتم بإعادة هيكلة الوظيفة العامة، ومتابعة قضاياها، فقد مضت عقود كثيرة ولم يطرأ عليها أي تعديل إلا ما أتى به القانون الأساسي للعاملين في الدولة، حيث كان هذا القانون مناسباً في تلك الظروف ولفترة مؤقتة لا تتجاوز العقد من الزمن، وكان من المفترض العمل على إيجاد قوانين جديدة متعددة تحكم الوظيفة العامة في سورية وفقاً لطبيعة كل قطاع للنهوض برأس المال البشري، واستثماره بشكل حقيقي.
تغيير المبادىء الوظيفية
لا شك أن الوظيفة في القطاع العام أثبتت خلال سنوات الأزمة أنها الأكثر ضماناً لمستقبل المواطن، بعد أن أغلقت معظم شركات القطاع الخاص أبوابها نتيجة الأزمة، ولكن مع ذلك يبقى الراتب الحكومي غير مرض لجميع الموظفين في ظل ارتفاع مستوى المعيشة المخيف، ما اضطر الجميع للبحث عن موارد دخل إضافية، سواء في العمل في القطاع الخاص، أو الورش، أو حتى فتح مشاريع صغيرة تورد لهم دخلاً إضافياً، ويؤكد الدكتور أيمن ديوب، استشاري التنمية الإدارية، أن الوظيفة الحكومية غير عادلة بالنسبة للجميع، فثقافة العمل، وأخلاقيات العمل عند المواطن تنقص معظم الموظفين لدينا، فموظفنا يتقاضى راتبه في الدولة بغض النظر عن الجهد المبذول، فالموظف الذي يعمل بشكل متفان يحصل على راتب الموظف نفسه الذي لا يبذل أي مجهود، أو حتى لا يداوم في الوظيفة بشكل نهائي، وبالتالي فإن إصلاح الوظيفة العامة خيار حتمي من حيث هيكلة الدولة، والأفراد، وصياغة المعايير، حيث يعتبر إصلاح الوظيفة العامة ممراً إجبارياً لمكافحة الفساد في الوظيفة الحكومية، والذي يتمثّل أولاً بهروب الموظف من عمله، وهذا يتطلب تعديل شروط الإشغال والتعيين والتقييم، وتحقيق مبدأ المساواة في الوظيفة العامة، ومبدأ تكافؤ الفرص، والفرص المتكافئة، ومبدأ الكفاءة العلمية والمهنية في التعيين، والاعتماد على القيم الأخلاقية، والعمل بشكل كبير على تنمية وتطوير الجانب الأخلاقي والقيمي في المجتمع بدءاً من الأسرة، على اعتبار أن الإصلاح الإداري يتطلب مشاركة الجميع، ووجود إحصاء مهني مسلكي ثقافي للعاملين، ووجود توصيف عملي وواقعي للوظائف، مع تحديد شروط الإشغال، كذلك العمل على القيام بإصلاحات تتعلق بحياة المواطن، (مثل تعديل نظام الوظائف العامة في سورية، نظام الضمان الاجتماعي، وغير ذلك).
تكبيل بالأنظمة
مجموعة من التحديات التي يتوجب مواجهتها من خلال المنهجية الجديدة للإصلاح الإداري، تحدث عنها عبد الرحمن تيشوري “استشاري إداري” أهمها الهياكل التنظيمية التي تعتمد على المركزية الإدارية، والمغالاة في البيروقراطية، والروتين، والتكرار، والافتقار إلى التسلسل الإداري الفعال، وعدم وجود التزام وآلية تفويض ومتابعة دقيقة، بما لا يتماشى مع الفكر المؤسساتي للإدارة الحديثة، والحاجة إلى تلبية احتياجات المواطنين، وخاصة من ناحية الأداء والفعالية والجودة العالية، وذلك خلافاً لنهج تكبيل الإدارات الحكومية بأنظمة وقوانين لا تتمتع بالمرونة، وتسهيل الإجراءات، وتبسيط المعاملات، وعدم دعم وزارة التنمية الإدارية كجهة راعية للإصلاح، وعدم تعديل نظام العاملين، وعدم إقرار نظام المراتب الوظيفية، وعدم استثمار برامج الجدارة القيادية، ناهيك عن عدم وضوح دور الإدارة الحكومية وآليات عملها، خصوصاً في ظل موجبات اقتصاد السوق الاجتماعي، حيث يتوجب توضيح الكثير من المسائل النظرية والتطبيقية لبناء نظام فعال للإدارة الحكومية الجديدة مترافق مع وضع السياسات والتشريعات التي تحتاجها البيئة التمكينية للإصلاح الاقتصادي الذي يجب أن يشمل وضع خطط شاملة لإدارة التغيير للحد من المقاومة والرفض للإصلاح والتطوير الإداري، وتطوير خطط تواصل فعالة وبرامج تدريب مكثفة لبناء وعي ومفهومية الموظفين، والمواطنين، وأصحاب الأعمال لمبادىء هذا الاقتصاد والطريقة الصحيحة للوصول إلى هذا الهدف، الأمر الذي قد يؤدي غيابه إلى عواقب سلبية في تطوير الاقتصاد الوطني تؤخر تحقيق الأهداف الإصلاحية، وأكد تيشوري أن هناك جملة من الأسباب التي تؤدي إلى هروب الموظف الحكومي من عمله، أهمها غياب الحافز المادي الداعم للأهداف الاجتماعية والإنسانية، وهذا يؤدي إلى ضعف الولاء والانتماء والأداء، ويؤدي إلى الخلل الإداري والفساد، وإلى الرشوة والاختلاس واستغلال المال العام، وتبادل المنافع بين أفراد الجهاز الإداري والجمهور، حيث تحول القطاع العام إلى خاص بمديريه والقائمين عليه، وخسرت الدولة مليارات الليرات السورية، كذلك هناك اهتمام جزئي بالتدريب والتأهيل الإداري متقطع متباعد متفاوت قاصر لم يحقق أية فائدة، وعدم وجود معايير ومقاييس في الاختيار والترقية والتعيين والترفيع، وتعيين الحكومة للمديرين وفق معايير ومعطيات لها علاقة بالنظرة الشخصية، والحكم الذاتي، والعلاقات الحزبية، والقرابة، والمحسوبية، والدفع، مع تحول المديرين إلى إرضاء من قام بتعيينهم، وتنفيذ غاياته وأهدافه، وعدم تنفيذ الأهداف والمصالح العامة، إضافة إلى عدم العناية بالعنصر الإداري المؤهل الذي لا يعرف المسؤولين الكبار أصحاب الفضل ومالكي السلطة، الأمر الذي أدى إلى حالة إحباط عامة، وهجرة الكثير من الشباب المتحمس المتحفز المبادر النشيط المبدع إلى خارج الإدارة.
نظام رقابة
وقدم تيشوري مقترحات لخطة متكاملة لتخليص الإدارة من العوائق والمصاعب وصولاً إلى إدارة فاعلة كفوءة تحقق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أولها تحديث نظم الترقية ومعاييرها، وإحداث هيئة جديدة لمكافحة الفساد تحل محل أجهزة الرقابة الحالية، واستثمار مخرجات برامج الجدارة القيادية، وإقرار نظام المراتب الوظيفية، ووضع قانون جديد للعاملين، ووضع سياسة جديدة للتحفيز، إضافة إلى تدوير الوظيفة القيادية بين المواقع المختلفة لتحقيق الخبرة الشاملة، وإشاعة ثقافة التدريب، واختيار العناصر الواعدة لتكوين القيادات المستقبلية، وتطوير نظم إدارة أداء الموارد البشرية، كذلك تطوير نظم الحوافز والتعويضات والمكافآت والخدمات الاجتماعية، وصولاً إلى مستوى معيشي لائق، كذلك تطوير إجراءات تعامل المواطنين مع الأجهزة الحكومية باتجاه تبسيطها وتقليل كلفتها، وإزالة التعارض والتضارب بين القوانين، إضافة إلى تفعيل دور الأجهزة المركزية، لاسيما مكتب الإحصاء، وهيئة تخطيط الدولة، والرقابة المالية، وهيئة الرقابة والتفتيش لتأخذ دورها الحقيقي والفعلي في العملية الإصلاحية التطويرية.
ميس بركات