دراساتصحيفة البعث

 بقيادة أمريكية.. نظام أمني في المنطقة حتى إشعار آخر

د.رحيم هادي الشمخي

لم تكن جولة وزير الخارجية الأمريكي (بومبيو) الأخيرة لمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط هذه المرة عادية، سواء من حيث الطابع الذي ميزها أو الأهداف التي رمت إلى تحقيقها، فالواضح أن هذه الجولة، التي اشتملت على زيارة تسع من دول المنطقة التي ترتبط مع الولايات المتحدة الأمريكية بعلاقات تعاون وتحالف استراتيجي ودفاعي وأمني وثيقة، كانت مختلفة إلى حد بعيد عن سابقاتها من الجولات والزيارات التي اعتاد مسؤول أمريكي رفيع المستوى القيام بها خلال السنوات الماضية، ويعود السبب في ذلك إلى الغرض الأساسي الذي يبدو أن واشنطن أرادته من هذه الجولة، وهو إعادة تنظيم وجودها العسكري في المنطقة، وترتيب أولوياتها الاستراتيجية فيها، وتحديد أطر التوجيهات التي تتحكم بمرتكزات السياسية الخارجية الأمريكية حيالها، وتحديداً على الصعيدين الدفاعي والأمني.

وبكلام آخر جاء (بومبيو) إلى المنطقة ليكرس الأسس الاستراتيجية الأمريكية وأطر العلاقات والتحالفات، وأشكال الخصومات والتناقضات والتهديدات، إضافة  إلى وسائل مواجهة هذه التهديدات، التي ترى واشنطن أنه سيكون من الضروري اعتمادها في منطقة الشرق الأوسط.

إن أبرز الجوانب التي تتضمنها الاستراتيجية الأمريكية هي رسم الخريطة السياسية الجديدة لمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، لكي تسيطر أمريكا على أهم مفاصل المنطقة الحيوية. كان وزير الخارجية الأمريكية بالغ الصراحة والحزم في إعرابه عن مواقف الولايات المتحدة الأمريكية وأهدافها، كما ظهرت من خلال التصريحات التي أدلى بها في كل محطة من المحطات التي زارها خلال جولته الأخيرة على دول منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، كما أنه لم يكن أقل صراحة في الإعراب عن الوسائل التي تراها واشنطن مناسبة لتحقيق هذه الأهداف والوقوف في وجه ما تعدّه بمنزلة تهديدات قد تحول دون الوصول إليها، وليس هذا بجديد أو بمستغرب تماماً بالنسبة إلى (بومبيو)، فهو أبلغ زعماء المنطقة رسائل استراتيجية، أما من حيث المضمون فهي (مجموعة النقاط) التي أرادت واشنطن إبلاغها  إلى دول المنطقة وحكوماتها، بالجولة برمتها كانت تهدف في المقام الأول إلى تحديد أولويات السياسة الأمريكية، وتوجيهاتها الاستراتيجية والدفاعية والأمنية في المنطقة، وهي كانت بالتالي أشبه بـ (رسالة استراتيجية) أرادت واشنطن إيصالها إلى تلك الدول والحكومات، سواء تلك التي ترتبط مع الولايات المتحدة الأمريكية بعلاقات صداقة وتحالف، أو تلك التي تنظر إليها السياسية الأمريكية باعتبارها مصدر خصومة وتهديد لمصالحها في المنطقة، ولذلك جاءت أهداف الزيارة وفقاً لأهداف الولايات المتحدة الأمريكية لتصب في الإطار الرئيسي التالي:

أولاً: التأكيد على استمرارية النظرة الأمريكية العامة حيال منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، باعتبارها منطقة ذات أهمية حيوية مركزية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها الخارجية، والتأكيد في الوقت نفسه على استمرار تمتع هذه المنطقة بالمرتبة الأولى على سلّم الأولويات الاستراتيجية الأمريكية في العالم.

ثانياً: الالتزام الأمريكي بأمن دول المنطقة التي ترتبط مع واشنطن بعلاقات تعاون وتحالف سياسية واقتصادية وأمنية، في مواجهة أي أخطار وتهديدات قد تبرز في مواجهتها، على اعتبار أن هذه الأخطار والتهديدات تستهدف المصالح الاستراتيجية الأمريكية نفسها.

ثالثاً: التشديد على الدفاع عن المصالح الأمريكية، ما يستدعي وجوداً عسكرياً فيها، وإبقاء قوات عسكرية أمريكية مدعومة من الحلفاء في دول الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وخاصة بناء قواعد عسكرية جديدة في العراق، للسيطرة على آبار النفط فيه، ومنع إيران من السيطرة على الدول العربية وتهديدها عن طريق نشر قوات عسكرية أمريكية، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية فعلاً في العراق، وتأتي هذه السياسة الأمريكية للسيطرة على (الشرق الأوسط ودول الخليج العربي) لكونهما  الركيزتان اللتان يبدو أن واشنطن قررت الاستمرار في اعتمادهما أساساً لسياستها الإقليمية خلال المرحلة المقبلة، أي عملية السلام بين العرب والكيان الصهيوني وسياسة (الاحتواء المزدوج) حيال العراق وإيران، والواضح أن صنّاع القرار الأمريكي وصلوا إلى الاستنتاج بأن هاتين الركيزتين لا تزالان المحور الذي ينبغي أن يستقر عليه التمييز بين حلفاء الولايات المتحدة وخصومها في المنطقة، ولذلك كانت الرسالة الأمريكية في هذا الإطار صريحة ومحددة لا تقبل التأويل أو الجدل، فالولايات المتحدة حسبما كان جلياً من وزير خارجيتها، ومحادثاته مع زعماء الدول التي جال عليها، تنظر إلى عملية السلام العربية- الإسرائيلية باعتبارها حجر الزاوية في خططها السياسية والاستراتيجية الراهنة والمستقبلية، وبالتالي فإن نجاح هذه العملية ومشاركة الجميع فيها تعد أمراً (محبذاً ومرغوباً فيه)، ويعني ذلك بالضرورة مساهمة دول المنطقة في العمل على نجاح هذه العملية وعدم عرقلتها أو تنفيذ ما يمكن أن يشكل عوائق في وجهها، ومن شأن هذه ا لمساهمة التي لابدّ أن تتخذ في نهاية المطاف، والأفضل عاجلاً عوضاً عن آجلاً، توجهات عربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، على أساس أن ذلك لابدّ وأن يشجع فرص نجاح عملية السلام ويعزز إمكانات دفعها إلى الأمام، الأمر الذي سيدفع واشنطن في المقابل إلى (تقدير) مثل هذه المواقف، والنظر إليها من زاوية كونها (التعبير الأمثل عن الصداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف معها) أما العكس فهو الصحيح بدوره طبعاً، وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة التي واجهتها هذه النظرة الأمريكية من عديد من الأوساط في المنطقة، ولاسيما من حيث مغالاتها في تبسيط الأمور وعدم أخذها بما يكفي من اعتبار للعوامل والعناصر الأخرى المعقدة والمتشعبة التي تتحكم بأوضاع الخليج والشرق الأوسط وجوارهن وبشبكة العلاقات الداخلية والثنائية والإقليمية التي تميز عادة هذه الأوضاع وتؤثر عليها، فالخوف الأمريكي المتزايد من إيران وخاصة من مفاعلها النووي بعد إلغاء الاتفاق النووي معها وتهديد الرئيس الأمريكي ترامب لإيران بالحصار الجائر وبالقوة العسكرية، ينذر عن وجود نية أمريكية سيئة تجاه إيران، ولاسيما بعد تعاظم القوة العسكرية الإيرانية خصوصاً على صعيد الأسلحة الهجومية البعيدة المدى كالصواريخ البالستية، إلى جانب ما يعتبرونه استمرار  إيران في معارضة عملية السلام بين العرب  و”إسرائيل” وقلق الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” ودول الخليج العربي من التحكم الإيراني بخطوط مواصلات النفط وإمداداته وممراته المائية في الخليج العربي ويصنفون ذلك بأنه (مؤشرات لا يمكن تجاهلها) على رغبة إيران كما يدعون، في بسط نفوذها على المنطقة ومعاداة المصالح الأمريكية والغربية الاستراتيجية  الحيوية فيها.

من خلال هذه القراءة الأمريكية والمتشددة لأوضاع المنطقة وتطوراتها المحتملة، لم يكن الأمر مستغرباً ان تتضمن الرؤية الأمريكية للمنطقة ببقاء القوات الأمريكية فيها، وهذا ما حدث في العراق وسورية (بأن القوات الأمريكية باقية في المنطقة حتى إشعار آخر)، هذا ما قاله ترامب عدة مرات، وكشفه عن عزم واشنطن على توسيع قواعدها العسكرية في الكويت والبحرين وقطر والسعودية، وما يجري الآن في العراق من بناء قواعد عسكرية من شماله إلى جنوبه وبصورة خاصة قاعدة (عين الأسد) وقاعدة التنف وأربيل لهو أكبر دليل على انتشار هذه القوات الأمريكية في العراق، وهو تهديد صارخ للسيادة الوطنية العراقية.

وفي هذا السياق دعت الولايات المتحدة إلى تجميع الدول المصنفة في خانتها إلى المشاركة في نظام دفاعي وأمني مركزي مشترك بقيادة واشنطن ومباركتها ومشاركتها المباشرة، ومن هنا فمثل هذه الدعوة كانت في حد ذاتها مؤشراً واضحاً على الاستراتيجية الأمريكية المعتمدة حيال الشرق الأوسط والخليج العربي، فواشطن أصبحت تنظر إلى المنطقة باعتبارها إقليماً واحداً، وتقع ضمن دائرة دفاعية وأمنية واستراتيجية واحدة، شأنها في ذلك شأن  أوروبا وجنوب شرق آسيا، أما الدفاع عن أمن المنطقة وعن المصالح الأمريكية والغربية الحيوية فيها فيجب أن يتوفر خلال نظام استراتيجي مركزي واحد يميز تماماً ما بين الحلفاء والأعداء، والمصالح والتهديدات، ويرسم بصورة دقيقة الأهداف المشتركة التي ينبغي العمل على تحقيقها، وما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية إبلاغه بعد أن دمرت دولاً عربية ذات سيادة كاملة بواسطة “داعش” وغيرها من صنوف الإرهاب الدولي (إن هذه النظرة باتت من الثوابت الأساسية في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، الإقليمية والدولية، وهي لن تكون مرشحة لأن تشهد أي تعديل أو تبديل في المستقبل المنظور، بل إنها ستظل الأساس الذي ستقوم عليه سياسة واشنطن الخارجية وأولوياتها الدفاعية في المنطقة خلال المرحلة القادمة).

إن الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة يسعى جاهداً وبمساعدة أطراف عربية وعالمية إلى رسم صورة استعمارية قاتمة لشعوب المنطقة، الهدف من ذلك السيطرة على ثروات الشعوب وفي مقدمتها ضمان أكبر احتياطي من النفط للولايات المتحدة الأمريكية، وتأمين طرق المواصلات البرية والبحرية والجوية في المنطقة، والإطاحة بأنظمة الحكم التي تناهض السياسة الأمريكية، والسيطرة على مفتاح الاقتصاد العالمي وتسخيره لمصلحتها ولمصلحة حلفائها، وبذلك يمكن لـ “إسرائيل” أن تنجح في تطبيع العلاقات مع الدول العربية التي أصبحت لا حول لها ولا قوة نتيجة ما حلّ بها من خراب ودمار سببه أمريكا والكيان الصهيوني وعرب الجنسية.