إدمــــان مــبـيـعـــات الأســـــلـحـة الأمـريـكـيــة
ترجمة وإعداد: سمر سامي السمارة
يُعتبر ترامب واحداً من أكثر تجار الأسلحة عدوانية في التاريخ، فهو لا يخفي ذلك بل يُفصح عنه علناً معتبراً أنها فرصة لا تُعوض، وقد استهل ترامب أول رحلة خارجية له كرئيس بـ”صفقة أسلحة مع النظام السعودي بقيمة 110 مليارات دولار”.
في الواقع، كان ترامب خلال هذه السنوات التي قضاها في منصبه، من أشرس المناصرين لـ”بوينغ”، “لوكهيد”، “رايثيون”، وشركة “جنرال دايناميكس” المستفيدين الرئيسيين من تجارة الأسلحة الأمريكية لمملكة آل سعود.
كان لكل صفقة أسلحة أمريكية إلى الشرق الأوسط، مجموعة لا تُحصى من العواقب الوخيمة على المنطقة، وذلك انطلاقاً من الحرب الوحشية التي قادتها مملكة آل سعود مستخدمة أسلحة أمريكية في حربها الشعواء على اليمن، والتي أسفرت عن مقتل وتجويع الآلاف من المدنيين، إضافة إلى الغزو التركي الأخير لسورية الذي اعتمدت فيه كل من القوات التركية بشدة على الأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة.
أثبت ترامب بشكل كبير أن إبرام صفقات لتلك الأسلحة هو ما يعنيه، بغضّ النظر عمن يستخدمها وضد من يتمّ توجيهها. وربما من المهم الإشارة إلى أن ترامب، من الناحية التاريخية كان فريداً من نوعه في هوسه بالترويج لصادرات الأسلحة.
وبالعودة إلى إدارة أوباما، على الرغم من العلاقة التي يُفترض أنها متوترة مع مملكة آل سعود، فقد تمكّنت من تقديم رقم قياسي لأفراد العائلة المالكة، يصل إلى 136 مليار دولار من الأسلحة الأمريكية بين عامي 2009 و2017. ورغم أن هذه العروض لم تسفر عن مبيعات نهائية، ولكن الأرقام كانت لافتة للنظر، ومنذ ذلك الحين يتمّ استخدام الكثير من هذه الأسلحة في الحرب على اليمن.
ويُسجل لإدارة أوباما، أنها أجرت نقاشاً داخلياً حول الجدوى من الاستمرار في مثل هذه التجارة، وفي كانون الأول لعام 2016 قام الرئيس أخيراً، بتعليق بيع القنابل دقيقة التوجيه إلى سلاح الجو السعودي بسبب تزايد الخسائر البشرية من المدنيين اليمنيين، ومع ذلك، كان هذا الإجراء متأخراً، إذ بدأت الحرب على اليمن في آذار 2015.
في ذلك الوقت، كانت هيمنة واشنطن على تجارة الأسلحة في الشرق الأوسط أمراً مسلماً به، وبحسب دراسة لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، فقد شكلت الولايات المتحدة أكثر من 54٪ من شحنات الأسلحة المعروفة إلى الشرق الأوسط في الفترة الممتدة ما بين 2014 إلى 2018.
برّرت الإدارة الأمريكية إرسالها الأسلحة إلى تلك المنطقة التي تعاني أكثر من أي وقت مضى بأنها تسعى لبناء شراكات مع دول مستعدة نظرياً للقتال إلى جانب القوات الأمريكية في الأزمات، ومقايضة الأسلحة للوصول إلى القواعد العسكرية في دول الخليج، وتحقيق “الاستقرار” من خلال تعزيز قوات التحالف لتكون أقوى من جيوش الأعداء المحتملين مثل إيران، وتحقيق إيرادات لشركات الأسلحة الأمريكية، فضلاً عن توفير فرص عمل للعمال الأميركيين.
بطبيعة الحال، لقد استفاد المتعاقدون وشركات الأسلحة الأمريكية من هذه المبيعات فعلياً، ولكن عندما يتعلق الأمر بتعزيز الاستقرار والأمن، فتلك قصة أخرى.
عقيدة نيكسون
إن دور واشنطن كأكبر مورد للأسلحة في الشرق الأوسط له جذوره، ففي تصريحات أدلى بها “ريتشارد نيكسون” قبل نصف قرن على جزيرة غوام خلال فترة حرب فيتنام، وبينما كان الرئيس في طريقه إلى فيتنام الجنوبية، كانت الخسائر تتزايد بشكل كبير مع عدم وجود نهاية واضحة للنزاع في الأفق. خلال توقفه في غوام، أكد نيكسون للصحفيين المرافقين له أن الوقت قد حان لوضع حدّ لإرسال أعداد كبيرة من القوات الأمريكية للقتال في الخارج. واجتناباً لحرب أخرى مثل حرب فيتنام في أي مكان في العالم، وعوضاً عن ذلك اقترح تطبيق سياسة جديدة، وصفها لاحقاً مسؤول في البنتاغون “إرسال أسلحة بدلاً من إرسال قوات”.
كان جوهر ما عرف بـ”عقيدة نيكسون” هو تسليح الوكلاء الإقليميين، فالبلدان التي يحكمها زعماء متعاطفون أو حكومات يمكن أن تعزّز المصالح الأمريكية دون وجود وحدات عسكرية من الجيش الأمريكي.
كان شاه إيران من أهم الوكلاء المحتملين في تلك الآونة، حيث استبدل جهاز الاستخبارات البريطانية ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، الحكومة المدنية في عام 1953 بالشاه الذي أثبت أنه يملك شهية نهمة للأسلحة الأمريكية المتطورة.
وخلال ولاية نيكسون أصبحت مملكة آل سعود أيضاً عميلاً رئيسياً للأسلحة الأمريكية، ولم يكن ذلك بسبب تخوفها من جيرانها الإقليميين في ذلك الوقت، ولكن على ما يبدو، لأنها كانت تمتلك عائدات نفطية هائلة لدعم صانعي الأسلحة الأميركيين في وقت كانت فيه ميزانية البنتاغون بدأت في التقلص، وقد ساعدت مبيعات الأسلحة لمملكة آل سعود في تعويض بعض العائدات المتدفقة من الولايات المتحدة التي كانت تُدفع بسبب ارتفاع أسعار الطاقة التي فرضتها منظمة أوبك النفطية الجديدة، وقد عُرفت العملية آنذاك باسم “إعادة تدوير البترودولار.”
سنوات كارتر
في النهاية، دفعت تجارة الأسلحة الحرة في فترة تولي نيكسون إلى ردود فعل عكسية. وفي عام 1976 جعل المرشح الرئاسي -جيمي كارتر- كبح جماح تجارة الأسلحة الموضوع الرئيسي في حملته الرئاسية عام 1976، كما دعا إلى فرض المزيد من التدقيق على صادرات الأسلحة، وخفض الحجم الإجمالي لعمليات نقل الأسلحة، وبدء محادثات مع الاتحاد السوفييتي بشأن تقليص المبيعات إلى مناطق التوتر مثل الشرق الأوسط.
خلال تلك الفترة، شعر أعضاء في الكونغرس بأنه قد ولّى ذلك الزمن، الذي يُعطي فيه الكابيتول هيل دوراً في صنع القرار عندما يتعلق الأمر بمبيعات الأسلحة. وفي كثير من الأحيان يعلم ممثلو الكونغرس بشأن الصفقات الرئيسية من خلال قراءة التقارير الإخبارية في الصحف بعد فترة طويلة من تسوية مثل هذه القضايا. كان من بين الشواغل الرئيسية التي تحرك أعمالهم: زيادة مبيعات الأسلحة إلى مملكة آل سعود في فترة ولاية نيكسون، واستخدام الأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة للجانبين في النزاع اليوناني التركي على جزيرة قبرص، ومبيعات سرية لقوى اليمين المتطرف في جنوب إفريقيا، ولاسيما اتحاد الاستقلال التام لأنغولا المدعوم من جنوب إفريقيا.
كانت الإجابة هي إقرار قانون مراقبة تصدير الأسلحة لعام 1978، الذي يتطلّب إخطار الكونغرس بأي مبيعات كبيرة مقدماً، والتأكيد على أنه يتمتّع بسلطة الاعتراض على أي منها يعتبر خطيراً أو غير ضروري.
ولكن، كما هو معلوم، لم تحدث مبادرة الرئيس كارتر ولا التشريع الجديد، أثراً كبيراً على الاتجار غير المشروع بهذه بالأسلحة. في النهاية، قرّر كارتر إعفاء شاه إيران من الالتزامات الصارمة بحقوق الإنسان، وقام مستشار الأمن القومي المتشدد زبيغنيو بريجنسكي بوقف تلك المحادثات مع الاتحاد السوفييتي بشأن تخفيض مبيعات الأسلحة.
أراد كارتر أيضاً من خلال قوة الانتشار السريع الجديدة التي أسّسها -وخضعت في النهاية للقيادة المركزية الأمريكية- الوصول إلى القواعد العسكرية في منطقة الخليج، وكان على استعداد لاستخدام صفقات الأسلحة للقيام بذلك. كان من المفترض أن تكون القوة الديمقراطية المركزية هي محور عقيدة كارتر. وكما أوضح الرئيس في خطاب حالة الاتحاد لعام 1980: “إن أي محاولة من قبل أي قوى خارجية للسيطرة على منطقة الخليج ستعتبر بمثابة اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وسيتمّ التصدي لها بشتى الوسائل الضرورية، بما في ذلك استخدام القوة”، وعليه سيكون بيع الأسلحة في المنطقة بمثابة ركيزة أساسية لمذهبه الجديد.
استمرار الإدمان
قام ترامب بتزويد حلفائه في الشرق الأوسط، وخاصة مملكة آل سعود بكميات كبيرة من الأسلحة، وعلى الرغم من أن المسوغات الرئيسية التي يقدمها ترامب من وراء إبرام الصفقات هي توفير وظائف وعائدات محلية لكبار مقاولي الأسلحة، إلا أنه في الواقع فإن استثمار المال والجهد في أي مجال آخر تقريباً، من البنية التحتية إلى تقنيات الطاقة المتجددة، سيوفر المزيد من فرص العمل في الولايات المتحدة، وبغض النظر عن ذلك، فإن هذا الإدمان مستمر.
ولعلّ من التطورات البارزة الناجمة عن سياسات ترامب، هو قرار الكونغرس الحدّ من مبيعات الأسلحة، مع التركيز بشكل خاص على إنهاء الدعم للحرب التي تقودها السعودية على اليمن. وقد صوّت الكونغرس على منع مبيعات القنابل وغيرها من أشكال الدعم العسكري لمملكة آل سعود، فقط من أجل الاعتراض على جهود ترامب، ومع ذلك فإن إجراءات الكونغرس بشأن المبيعات لم يسبق لها مثيل. وقد تستمر هذه الحال، إذا فاز ديمقراطي بالرئاسة في عام 2020.
قد تحظى مثل هذه الصفقات مع مملكة آل سعود ودول الشرق الأوسط الأخرى بشعبية كبيرة من الشركات التي تستفيد من هذه التجارة، ولكن يرى محلّلون أن الغالبية العظمى من الأميركيين يعارضون تجارة الأسلحة التي تجعل العالم أقل أماناً. والسؤال المطروح الآن هو: هل سيلعب الكونغرس دوراً أكبر في محاولة منع صفقات الأسلحة هذه مع مملكة آل سعود ومنتهكي حقوق الإنسان، أم هل سيستمر إدمان مبيعات الأسلحة في أمريكا وموقعها الاحتكاري في تجارة الأسلحة في الشرق الأوسط، ما يمهد الطريق للمزيد من الكوارث في المستقبل؟.