دراساتصحيفة البعث

أوروبا تنتظر الانتخابات الأمريكية

 

عناية ناصر
ثمّة أشياء محدّدة تخيف الحكومات الأوروبية، مثل احتمال فوز دونالد ترامب في عام 2020. ففي أقل من ثلاث سنوات، قام فعلياً بتخريب العلاقات بين ضفتي الأطلسي، وقام بإهانة قادة الحلفاء في كل مرة يتاح له ذلك. وفي حال كان لديه خمس سنوات أخرى للعب بها، فيمكن تقليص العلاقة وتحويلها إلى مجرد ركام.
عندما يتعلق الأمر بالاتحاد الأوروبي، فإن إدارة ترامب غالباً ما تكون معادية صراحة. فقد ذهب المبعوث الأمريكي إلى الاتحاد الأوروبي إلى حدّ القول إن مهمته هي تدميره. وسواء أكان الأمر يتعلق بإيران أو تغيّر المناخ، فإن إيجاد أرضية مشتركة بين أمريكا وأوروبا يزداد صعوبةً أكثر فأكثر، خاصةً وأن ترامب لا يحظى في معظم العواصم الأوروبية بشعبية كبيرة، وأية سياسة يدعمها تصبح على الفور أقل جاذبية. لكن الجانب المشرق، كما يُقال، هو أن رئاسة ترامب ستجعل أوروبا أكثر توحداً. ففي مواجهة الحقيقة المريرة المتمثّلة في أن أمريكا ستظل حليفاً غير موثوق به خلال السنوات القادمة، يقول البعض إن الأوروبيين لن يكون لديهم خيار سوى المضي قدماً في المشروع الأوروبي. وستجد حكومات الاتحاد الأوروبي طرقاً لمزيد من التعاون في السياسة الخارجية والأمنية، وبفضل الاستثمارات الضخمة في القدرة العسكرية، ستصبح أقل اعتماداً على الولايات المتحدة. وستكون النتيجة أوروبا أكثر توحداً تتحدث بصوت واحد وتهتم بمصالحها، وتتولى دور المدافع الثابت عن النظام الدولي الليبرالي.
تاريخياً، لعب الدعم الأمريكي دوراً أساسياً في توحيد أوروبا. وإلى جانب الدعم الدبلوماسي، قدمت الضمانات الأمنية الأمريكية الشروط اللازمة لظهور الاتحاد الأوروبي في المقام الأول. وعندما تصبح مظلة الأمن الأمريكية أقل جدارة بالثقة في عهد ترامب، ستصبح خطوط الصدع القديمة أكثر وضوحاً وستظهر انقسامات جديدة.
مع إضعاف الناتو، ستحاول بعض الدول الأوروبية إبرام صفقات ثنائية مع الولايات المتحدة لضمان أمنها، فيما سيحاول آخرون الدفع بكامل قوتهم نحو حلّ أوروبي. في الوقت نفسه سيخسر الاتحاد الأوروبي أحد أقوى أسلحته بعملية البريكست. كما أنه من غير الواضح كيف يمكن للجبهة الأوروبية أن تكون قادرة على الدفاع عن النظام الليبرالي، فالقادة الأوروبيون يروق لهم إلقاء خطب كبرى حول الحاجة إلى إنقاذ النظام الدولي الليبرالي، لكنهم يتردّدون في بذل الدم والمال في الدفاع عنه.
يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أوروبا التقرب من روسيا، كما لا ترغب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في حظر الشركات الصينية من البنية التحتية للشبكات الحساسة في ألمانيا خوفاً من إزعاج الحزب الشيوعي الصيني. وإذا كان هذا ما يحدث الآن، لنتخيّل ما سيكون عليه الأوروبيون بعد سنوات أخرى قليلة من ولاية ترامب.
من المعروف أن السياسيين الأوروبيين في الاتحاد الأوروبي يدعون للتخلص من الحاجة إلى الإجماع على قرارات السياسة الخارجية والأمنية، متذرعين بأن صعوبة التوصل إلى توافق في الآراء قد تعيق أوروبا. ولكن الابتعاد عن إيجاد الإجابة الضرورية على نهج ترامب “أمريكا أولاً” ينذر بزيادة الأمور سوءاً، لذلك لا يمكن أن نتوقع من الدول القوية أن تستخدم مواردها لتنفيذ السياسات الخارجية التي ترفضها. قد ينجح إلغاء الحاجة إلى الإجماع في مجالات أخرى، ولكنه يشكّل وصفة لكارثة في السياسة الخارجية والأمنية في وقت تضخم فيه التشكيك بأوروبا. وبدلاً من تسهيل قيام الاتحاد الأوروبي بالعمل ككيان واحد، سيكون هذا بمثابة هدية للشعبويين من اليسار إلى اليمين. من هنا لا يمكن لأوروبا أن تتقدم إلا بسرعة أعضائها المتشككين، وسيصبح هذا الأمر أكثر صعوبة إذا استغل البيت الأبيض الخلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن لأوروبا أن تنتظر على أمل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، وكانت ميركل محقة عندما قالت إن على أوروبا أن تفعل المزيد من أجل الإمساك بزمام مصيرها بنفسها.
هذا لا يعني أن أوروبا يمكن أن تتحمّل الابتعاد تماماً عن أمريكا، وهي سوف تحتاج إلى السير على حبل مشدود ومتابعة تبني السياسات التي تحقق كلا الهدفين في الوقت نفسه: تعزيز اعتمادها على نفسها، والحفاظ على علاقات جيدة مع واشنطن. هناك نقطة واضحة للبدء هي الاستثمار بكثافة في الدفاع. لقد ضغطت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة على الأوروبيين للمساهمة بشكل أكبر في أمنهم ولن تتغيّر تلك السياسة، حتى بعد مغادرة ترامب منصبه.
إذا كان هناك أي أمل في بقاء الناتو على المدى الطويل، فسيتعيّن على الأوروبيين المساهمة بشكل أكبر، وسواء أصبحت الولايات المتحدة أكثر موثوقية، أو توقف الناتو عن توفير ردع حقيقي، سيتعيّن على الأوروبيين بالتأكيد فعل الكثير، عليهم أن يبدؤوا بذلك الآن.