تقسيم فلسطين..عداء غربي للعرب ورضوخ لليهودية العالمية
د. يوسف جاد الحق
من المعروف تاريخياً أن ساسة أوروبا وقادتها كانوا دوماً على عداء للأمة العربية، منذ حروب الفرنجة قبل ألف سنة وحتى يومنا هذا، لم يتورعوا في يوم من الأيام، عن الكيد لهذه الأمة، ومناصبتها الخصومة عن غير حق دائماً، كان يحدث ذلك بالغزو العسكري المباشر حيناً، وحيناً بالتشويه اللا أخلاقي والافتراء عن طريق الإعلام بوسائله المتعدّدة القديمة والحديثة على حدّ سواء.
من ناحية ثانية درج الأوروبيون، بريطانيا على الخصوص، على الاستهانة بالأمة العربية، بامتهانهم لكرامتها والاستخفاف بتاريخها ومنجزاتها الحضارية التي نهلت من معينها أوروبا حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، الأمر الذي يقرّ به أصحاب الضمائر الحيّة والوجدان السليم، من بينهم أمثال (زيغريد هونكه) الألمانية في كتبها، منها (شمس العرب تشرق على الغرب) وغيرها من المنصفين من أعلامهم الدارسين الباحثين، مثل الفيلسوف غوته والكاتب البريطاني برنارد شو.
من هنا كانت فكرة تقسيم فلسطين بين أهلها وشتات اليهود الغرباء واحدة من صور هذا العداء عندما ناصروا الباطل على الحق، فعمدوا إلى تقديمها هديةً مجانيةً لعصابات إسرائيل بذريعة أنها (أرض بلا شعب تمنح لشعب بلا أرض..!) وفق وعد وزير خارجية بريطانيا (آرثر بلفور عميل آل روتشيلد اليهود) في حينه، ورفاقه أمثال (سايكس البريطاني ) و(بيكو الفرنسي).
ترى هل عمي هؤلاء عن أن هناك في هذه البلاد مدناً وقرى عامرة بأهلها، موّارة بالحياة..؟ ماذا عن القدس والخليل وبيت لحم، مهد السيد المسيح عليه السلام، وعن يافا وحيفا ونابلس وطولكرم وغزة والمجدل واللد والرملة ويبنا واسعود.. وعكا، وحصار نابليون لها، وعجزه في النهاية عن اقتحام أسوارها؟ وبالمناسبة كان نابليون أول من طالب بوطن قومي لهم في فلسطين. بل ماذا عن الحروب الصليبية قبل ألف عام وحملاتها المتكررة على مدى مائتي سنة؟. هل جاؤوا إلى هذه الديار فوجدوها خاوية على عروشها، خالية من السكان..؟ هل قاتلوا أشباحاً آنذاك؟!. هل كان (ريتشارد قلب الأسد) البريطاني خرافة؟ أم كان صلاح الدين الأيوبي محض خيال؟.
ترى من قاتل الوجود البدائي لليهود في زمن الانتداب البريطاني على فلسطين منذ أواخر الحرب العالمية الأولى؟ وهل توقفت ثورات (شعب الأرض التي بلا شعب..!) منذ ذلك الزمن حتى عام 1948 في وجه البريطانيين الذين لم ينجوا بأنفسهم مع جنودهم إلا عشيّة قرّر وزير خارجية بريطانيا (آرنست بيفن) إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، والرحيل عنها بعد أن هيّأت بلاده الظروف لتسليمها للأفاقين من عصاباتهم في 15 أيار عام 1948 تنفيذاً لما وعدهم به بلفور ومن قبله (ثيودور هرتزل).
سُئِل موشي دايان ذات مرة بأي حق تأخذون فلسطين من أهلها؟، فأجاب: (إذا لم يكن بالحق التاريخي فبحق “دماء” رجالنا من الأرغون وليحي وشتيرن والهاجاناه.
إذن كان هناك شعب يقاوم ويستشهد في سبيل وطنه.
ولكن لماذا كان ذلك التوقيت في 29 تشرين الثاني عام 1947 لتقسيم فلسطين؟.
لأن الغرب، كما أسلفنا، يستهين بالعرب كأمةٍ وجدها مناسبة للتكفير عن ذنبه (المفبرك المصطنع) تجاه اليهود عما لحق بهم على أيدي النازيين في ألمانيا وبولونيا وغيرها مما سمّوه (الهولوكست)، فلم يجدوا أسهل عليهم من فلسطيننا لكي يمنحوها لليهود تعويضاً لهم عن (ضحاياهم) هناك، ولاسيما أن وقت تنفيذ مضامين وعد بلفور لهم (بالوطن القومي اليهودي) قد حان، بعد أن قامت بريطانيا الانتداب (بواجبها) في تهيئة البلاد لذلك حسب نص الوعد إياه القائل (بوضع فلسطين في أوضاع اجتماعية وسياسية توطئة لمنحها وطناً قومياً لليهود).
الغريب أن هؤلاء (أدعياء الديموقراطية وحقوق الإنسان وو.. إلى آخر ذلك النفاق) تجاهلوا كون الفلسطينيين والعرب ليسوا هم من جنى على اليهود في أوروبا، إنما هم الأوروبيون أنفسهم فما دخل العرب في المسألة؟.
يحدثنا التاريخ بأن اليهود لم يجدوا لهم في الأرض ملاذاً آمناً عند غير العرب، فكان جزاؤهم أن يؤتى بشتاتهم من كل مكان إلى فلسطين لتؤخذ من أهلها اغتصاباً بعد تقتيل أهلها وتشريدهم في شتى أرجاء الأرض!.
ذلك الذي حدث لم يكن له سابقة في تاريخ البشرية، كان قمة التآمر والغدر، عاش آثاره وتداعياته الفلسطينيون والعرب على مدى أكثر من قرن كامل حتى يوم الناس هذا وما يزالون.
هناك من المؤرخين -الغربيين بالذات- من قال بأن أوروبا إنما أرادت إصابة عدد من العصافير بحجر واحد، فهي (أولاً) تعمل على الخلاص من اليهود هناك، وهي (ثانياً) تضعهم مع العرب في مواجهة لاتنتهي على مدى السنين مع علمهم بأن العرب معتدى عليهم وأن اليهود معتدون.
هذا ما حدث، وذروته كانت تقسيم فلسطين، ومنحها لهم في أسوأ ما عرف التاريخ من صور التآمر والغدر، وإيقاع الظلم والأذى بشعب لم يسئ في تاريخه كلّه إلى أحد.. شعب فلسطين.. بلد السيد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، الذي ناصبه اليهود العداء، وأنكروه، وسعوا إلى صلبه، وبرغم ذلك مضى الغربيون أتباعه يناصرون أعداءه ويقدمون بلده إليهم عربوناً لصداقتهم (السياسية) اللا أخلاقية الآثمة.
وأخيراً نقول: لو كان للغرب نصيب -أي نصيب- فيما يدّعيه من حرص على (حقوق الإنسان في الحرية والعدل وحق تقرير المصير) لكان حريّاً به اليوم التكفير عن ذنوبه، وهي بحجم الجبال الرواسي، في حق الفلسطينيين، وما أصابهم من أذى وما حلّ بديارهم من دمار، وبغيرهم من العرب كذلك، في شتى أقطارهم، إرضاء لعصابات اليهود، أعمدة الإرهاب العالمي..
(الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) وفق قول الشاعر البريطاني (كبلنج).
أما الفلسطينيون، ومعهم المخلصون من بني قومهم، فليس أمامهم من سبيل للخلاص ولتحقيق آمالهم في التحرير واستعادة كافة حقوقهم المغتصبة بعد كل ما جرى، سوى طريق واحد لا طريق سواه، هو مواصلة النضال والمقاومة حتى النصر المبين الذي لا محالة آتٍ وفي زمن أقصر مما يتصورون.