ثقافةصحيفة البعث

سيذكرك الشعر والطريق

آصف إبراهيم

أول عهدي بشخص الشاعر العراقي مظفر النواب يعود للأمسية الشعرية التي أحياها على أرض معرض دمشق الدولي القديم وسط دمشق، ضمن الأسبوع الثقافي الذي أقامته دار المدى أوائل تسعينيات القرن الماضي، كان الهنغار(hangar)   الذي تمت فيه الأمسية كبيرا صفت فيه كراس  قليلة في الأمام للضيوف المهمين، أما السواد الأعظم من محبي ذلك الشاعر الكبير المشاكس، فقد تفاعل مع كل قصيدة يشدو بها، صياحا وتصفيقا، وصمتا، ووقوفا وأنا منهم طبعا، لكن عشقي لقصائد مظفر النواب سبقت ذلك العهد بردح ليس قليل يعود إلى زمن أكثر قدما، ربما منذ أن بدأت أستمع إلى مقاطع بصوته تبث، بين الحين والآخر عبر إذاعة لندن “بي بي سي”، حيث كانت قصائده الهجائية الناقدة للواقع العربي السياسي والاجتماعي محظورة في معظم الإذاعات العربية الرسمية وحتى قصائده المكتوبة كانت تخضع للكثير من الرقابة عند عبورها من خلال الحدود العربية، رغم ذلك بقي مظفر النواب على خطه المعهود مثابرا بلا تقاعس أو خوف أو كلل،لم يبدل تبديل.

أكثر من مرة صادفته متجولا بشوارع دمشق ببقايا شعر رأسه المشعث وبدلته التي ربما رافقت سنين شقائه وتطوافه الطويل بين شوارع المدن العربية وأزقة أحيائها. كنت أنظر إليه مأخوذا اتابعه حتى بعد أن يتجاوزني مروره. أتوقف والتفت لأتابع تفاصيل مشيته متأبطا حقيبته السوداء حينا وبدون حقيبة أحيانا أخرى، وكأني به يردد: “لم يعد يذكرني منذ اختلفنا غير قلبي والطريق..” من قصيدة “ثلاث أمنيات على أبواب السنة الجديدة “أمنيات ربما لم يتثن له تحقيقها ونحن على أبواب سنة جديدة”.

كان الشاعر، الذي نجا من حكم الإعدام وطوى مسيرة كفاح طويلة، يستقطب إليه ،شعرا مغنى بلهجته العراقية المحببة، ومنثورا بمفرداته المباشرة والعنيفة، جيل الشباب المتحمس للتغيير والتطوير، جيل يبحث عمن يصرخ باسمه: كفى ضياعا واستهتارا بمصير أمة ومستقبلها، كفى اختباء وراء شعارات خادعة وتاريخا مزيفا، كفى انحدارا نحو هاوية بلا قرار، كان مظفر النواب دائم الصراخ حتى الثمالة وهو يدرك تماما أنه “قد يُسمع لو نادى حيّا، لكن لا حياة لمن ينادي…” ولأن العمر أقوى من إرادة الحياة، فقد خانته تلك السنون في عركها غير العادل والنزيه ردحا، فأنهكه عراكها، ليسلم الراية إلى ظله المتغلغل بين قصائد كتبه وتسجيلات صوته، بين أجيال أحبته وصدحت حناجرهم بشعره غضبا وعشقا.

غاب مظفر النواب وترك لنا ذلك الحزن الذي سار إليه وهو يناديه بعاميته البغدادية”. .ياحزن ياريت أعرفك وين ساكن كنت أقل لك لاتجيني وتمشي كل هاي المسافة أنا وحدي كان اجيتك..”