ثقافةصحيفة البعث

الفلسفة في عصر العولمة ومستقبل النظريات الكبرى

 

عرفت مراحل التاريخ البشري تطورات متلاحقة من حيث المفاهيم والفلسفة الحياتية بكل أشكالها وأنواعها، لذلك فقد كان لكل عصر مفاهيمه ومصطلحاته، ولكل حقبة اهتماماتها وقضاياها وانشغالاتها، وفي مسيرة الفكر الإنساني،تتجدد ألفاظ الحضارة وتبرز أفكارا ومفاهيم جديدة تفرض نفسها على الحياة من جميع المستويات. فقد تنقلت الفلسفة في مراحل تطورها من نظم اجتماعية سياسية اقتصادية ثقافية إلى أخرى تقوم على أنقاض سابقتها، ففي محاضرته “الفلسفة في عصر العولمة” التي ألقاها في فرع حمص لاتحاد الكتاب العرب يأخذنا الباحث عطية مسوح إلى رحاب الفلسفة ومتغيراتها الكبرى منطلقا من سؤال هام وهو لماذا لم تظهر فلسفات كبرى أو تيارات فلسفية جديدة، منذ مئة عام كالتي ظهرت في القرون الثلاثة التي عرفت عصر الفلسفة الذهبي..؟ وقد استنتج الكثير من الباحثين أنها في طريقها إلى الانتهاء، لأن العلم هو الأقدر على الإجابة عن أسئلة الحياة المتعلقة بقضايا الكون والتطور والمصير، فما يعجز عنه العلم لن تقدر الفلسفة عليه.
لكن مسوح يرجع السبب إلى عدم حاجة الناس إليها، وفشل الفلسفات الكبرى في الوصول إلى استنتاجات مقنعة في القضايا المصيرية والكونية، فالفلسفة بوصفها حاجة إنسانية حقيقية لا تظهر قوية عملاقة إلا حين تضع الحياة أمامها مهمة كبرى (تاريخية ،اجتماعية،…الخ) لا تتحقق إلا بإسهام الفلسفة بخاصة والثقافة بعامة. وبالتقاء تاريخ تطور المجتمعات وتاريخ الفلسفة يجد أن ظهور الفلسفات العظيمة الفاعلة في الحياة كان مقترنا بمراحل تاريخية مفصلية، كانتقال المجتمعات من واقع اقتصادي اجتماعي وسياسي إلى واقع آخر مختلف اختلافا جذريا عن سابقه، فقد ولدت الفلسفات القديمة، لاسيما اليونانية، تلبية لحاجة الإنسان إلى التأمل في مصير بعد الموت.
وبعد هذا الاستهلال انتقل مسوح للحديث عن مراحل تطور الفلسفة التي بدأت مع نشوء العلاقات الرأسمالية في أوروبا وظهور نصوص فلسفية تواكب تلك العلاقات وتمهد لظهور فلسفات جديدة وفاعلة، وقد قسم هذا النشوء إلى ثلاث مراحل هي: مرحلة النشوء والنمو وفيها حدثت قفزة فلسفية هائلة في ظهور فلسفات عقلية جوهرها نقل الفلسفة من حقل اللاهوت إلى حقل الحياة وإنزالها من السماء إلى الأرض، وتجلت تلك النقلة في أمرين اثنين الأول نقد الدين والتفكير الديني، والثاني الاهتمام بقضايا الحياة الاجتماعية، وصارت الفلسفة قوة اجتماعية تسهم في التطور، وهكذا تحقق انتقال مصيري من الإقطاعية المدعومة لاهوتيا وكنسيا من فلسفة العصور الوسطى إلى الرأسمالية التي لاتنهض إلا في مناخ العقلانية واقتضى أن ترافقها فلسفات تعادلها قوة. وهنا تبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة الترسيخ والسيادة، ولكن أين الفلسفة من المرحلة الثالثة والتي هي العولمة التي يرى فيها مسوح مرحلة موضوعية من مراحل تطور الرأسمالية اقتصاديا وعلميا وثقافيا وسياسيا، جوهرها نشر القيم الثقافية الرأسمالية والأخلاقية عن طريق جعل العالم ساحة إنتاجية وتبادلية واحدة، وفي هذه المرحلة أصبحت المعارف مباحة للجميع باستثناء ماتخفيه مراكز البحوث التابعة للاقتصاديات الكبرى وهي ما أشار إليها ماركس وانجلز أن “الرأسمالية المتطورة ستوحد العالم”. ومن الطبيعي أن يكون للعولمة معادلها الفلسفي، لكن بما أنها ليست نظاما جديدا بل مرحلة من مراحل الرأسمالية فإن معادلها لم يكن فلسفة جديدة، بل كان تطورا لفلسفات سابقة، كما أنه اقتصر على نظريات المجال الاجتماعي.
ومن أهم الفلسفات التي واكبت العولمة كانت البراغماتية الجديدة الأوسع انتشارا وهي فلسفة أمريكية نشوءا وتطورا، وفكرتها هي أن الفلسفة يجب أن تبحث في طريق العمل لتحقيق أهداف إنسانية محددة أي أنها تضع الفلسفة في خدمة الحياة العلمية. وكذلك الوضعية الجديدة وهي امتداد وفلسفات أوغست كونت في القرن العشرين، وبالتحديد الإضافات التي وضعها بيرتراند وتلاميذه، فقد قسم كونت تاريخ الفكر الإنساني إلى ثلاث مراحل هي المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية، وهو العلم.
التقاء الوضعية الجديدة والبراغماتية الجديدة في تهميش الفلسفة وحصرها في مجال الدراسات اللغوية ضمن ثلاثة جوانب هي: جانب التخفي وعلاقة اللغة بمن يستخدمها، والجانب الدلالي ومجاله علاقة اللغة بمن تعبر عنه، والجانب الداخلي، أو النحوي ومجاله بنية اللغة وتراكيبها.
الفلسفة الثالثة نهاية التاريخ وهي نظرية وليست فلسفة والذي يقربها من الفلسفة هو أنها تبطل كل الفلسفات السابقة وتؤكد أن التاريخ سيتوقف عند النموذج الليبرالي بنسخته الأمريكية، صاحب النظرية كما هو معروف فرنسيس فوكوياما المفكر الأمريكي ذو الأصول اليابانية.
النظرية الرابعة هي صدام الحضارات نظرية الأمريكي صموئيل هنتغتون التي تقوم فكرتها الرئيسة على أن الصراع في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة سيكون بين الحضارات المختلفة وهي تعبير عن سياسات الولايات المتحدة العولمية التي تحتاج إلى عدو لتسويغ سياساتها وتسوقها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة وفقدها المسوغ، الذي يبرر تدخلها الخارجي في العالم.
الفلسفة الأخيرة هي فلسفة الطريق الثالث بأنواعها وهي أكثر فلسفات عصر العولمة رواجا بين دعاة التغيير.
آصف إبراهيم