تحقيقاتصحيفة البعث

بانتظار اهتمام حكومي.. قرية “عوس” في ريف السويداء أنموذج للتكافل الاجتماعي والتضامن الأهلي

الزائر للقرية للمرة الأولى تراوده العديد من التساؤلات حول تلك البلدة التي اختار سكانها الصخور البازلتية مسكناً لهم، وكيف تحولت القرية سراجاً يتوهج وسط الليل، يحكي قصة إنسان استطاع بإرادته أن يطوع وعورة تلك الصخور ليحولها إلى واحة تفوح برائحة الأريج، وتزينها أشجار الزيتون والكرمة.. إنها “عوس”.

تنوع وغنى
تبعد القرية عن مدينة السويداء نحو /٤٥/ كم، تجعل الزائر إليها يأخذ متنفساً من التفكير حول طبيعة المنطقة التي عانت ما عانته من قساوة الحياة والعيش، أما الفضول الأكبر الذي يدفع الزائر للوصول إلى هناك فهو غناها الشديد بالمواقع الأثرية القديمة، والتنوع البيولوجي الكبير فيها.
غفوة التفكير تلك تقطعها رحلة المرور في عدد من القرى كالرحى، والكفر، إضافة إلى مدينة صلخد، رحلة التأمل تنتهي عند مدخل القرية، حيث تستقبلك لافتة الترحيب بزوار القرية التي بدأ الزائر يرسمها في ذاكرته، أو الملاحظات التي يدونها في مفكرته، ولا يمكن الهروب من تدوين كلمات مفتاحية لهذا النمط من العيش، وهي: الصلابة، والقساوة، والصمود، كلمات تختصر المشهد كاملاً، وما إن تدخل إلى القرية حتى تشعر بأن الزمن انتقل بك إلى حضارة غارقة في قصص التاريخ القديم، متربعة على هضبة أخذها الزمن معه لتحكي لنا خبايا قصصها، فكل حجر فيها له حكايا وتاريخ.

جغرافياً وديمغرافياً
المساحات الخضراء المنتشرة كواحات متفرقة في القرية تدل على أن القرية اتجهت لزراعة أشجار الزيتون، ومعرّشات العنب، فسكانها الذين لا يزيد عددهم عن ألف نسمة اتجهوا منذ عقدين من الزمن نحو تلك الزراعات التي بدأ بها الأجداد، وتبعهما الكثير، كما يقول الأهالي هناك، حتى غدت مساحات الأشجار رائعة المنظر، وساهمت بانتشار العمران فيها، رغم قلة المياه، حيث تروى القرية باستثناء البركة الأثرية لتبقى مزروعاتها بعلية تنتظر فرج السماء.
عضو مجلس بلدة عرمان والمسؤول عن القرية التي تتبع إدارياً لها عادل الشوفي أراد بداية التعريف لنا عن القرية بالدخول إليها جغرافياً، فجغرافيا المنطقة المعقدة تجمعها عوامل مشتركة مع قرى الريف الجنوبي للمحافظة، تبعد نحو ٥ كيلومترات إلى الجنوب الشرقي عن مدينة صلخد، وتمتاز بغناها بالمواقع الأثرية القديمة، وتنتشر منازلها القديمة والحديثة فوق هضبة من الصخور الوعرة، كما يقول الشوفي.
عينا الشوفي اللتان كانت حريصتين على تبادل أدوار النظر بين فنجان القهوة في يده وخارطة المنطقة، فالقهوة المرة مازالت أولى علامات الترحيب بالضيوف، إلا أن الشوفي حاول استثمار وقت “إكمال دور القهوة” بالحديث عن الواقع الديمغرافي، ليقول إن السكان اعتمدوا على الاغتراب في عدة بلدان، أما الوجود في القرية فيكون في العمل بزراعة المساحات الترابية القليلة المتفرقة الصالحة للزراعة، من زراعة الأشجار، إلى زراعة الحقول الموسمية من القمح والشعير.
أما المشكلة الأهم بالنسبة لأهالي القرية، حسب الشوفي، فهي حرمانهم من السدة المائية التي يغذيها الوادي والأقنية المجاورة لها بسبب تلوثها بمياه الصرف الصحي لبلدة عرمان، حيث قام الأهالي بقطع مجراه، ومنعه من الوصول إلى السدة بشكل حرمهم من المصدر المائي الوحيد لإرواء أراضيهم وثروتهم الحيوانية، علماً أن الجهات المعنية دفعت ملايين الليرات لتأهيل هذه السدة والاستفادة منها، إلا أنها اليوم محرومة من وصول المياه إليها، وبيّن الشوفي أنه تم التعاقد مع شركة ريما لتنفيذ خطوط صرف صحي في عرمان بشكل سيساهم في رفع الضرر عن مجرى الوادي والأقنية المغذية لسدة عوس المائية، بانتظار تشكيل لجنة إشراف من قبل شركة الصرف الصحي لمباشرة العمل، مؤكداً ضرورة تأمين “صهريج نضح” لقرية عوس لمعالجة المياه الآسنة في الجور الفنية في ظل عدم توفر إمكانيات لتنفيذ شبكة صرف صحي في القرية حالياً.
ترميم المدرسة
تراجع عدد التلاميذ في المدرسة من ٧٠ طالباً عام ١٩٩٠ إلى ٢٥ طالباً حالياً يثير العديد من التساؤلات حول الواقع الديمغرافي للقرية، ويشير هنا المعلم المتقاعد وهبي بركات إلى أن أهم مشكلة تعاني منها القرية هي الهجرة نحو المدينة من أجل العمل، وهذا ما أفرغ القرية من ساكنيها، فعوامل الرفاهية فيها معدومة أدت إلى هجرة السكان منها، ومن المطالب التعليمية، حسب بركات، افتتاح روضة خاصة بأطفال القرية لتخفيف الأعباء عن الأهالي الذين يضطرون لإرسال أبنائهم إلى رياض القرى المجاورة، وهذا يكبدهم خسائر مادية هم بغنى عنها، والحل بافتتاح شعبة تحضيرية دون الالتزام بالعدد المطلوب من الوزارة وهو ٣٠ طالباً، والأخذ بعين الاعتبار عدد السكان، أما مطلب ترميم المدرسة فهو في طريقه للتنفيذ بعد تخصيص ٧ ملايين ليرة لترميم المدرسة من قبل مديرية التربية.

مبادرات أهلية
خلال الجلسة الحوارية مع الأهالي تم طرح مشكلة الردميات الموجودة في المكان المخصص لإقامة حديقة للأطفال، حيث قامت البلدية بوضعها، وهي غير قادرة اليوم على إزالتها لعدم توفر مادة المازوت، فكان قرار الموجودين بأن يتم رفع الردميات على نفقة الأهالي، وهذا يقودنا إلى العمل الشعبي الذي يمتاز به أهالي البلدية، حيث تبدو حالة التكافل والتضامن واضحة بين الأهالي هناك، يقول سليمان الشوفي إن الأهالي نفذوا العديد من المبادرات كحملات التشجير، وإنارة الشوارع، ولكن لا توجد جهات حكومية تدعم تلك المبادرات، وتساءل الشوفي: كيف توفر المازوت في بلدية عرمان لنقل الردميات إلى هنا ولم يتوفر عند المطالبة بإزالتها؟!.
الأهم ويبدو واضحاً هو حالة الاكتفاء الذاتي، حيث استثمر السكان هناك كل شبر من الأرض وسخّروه في الزراعة، خاصة الزراعات المنزلية بشكل يحقق لهم اكتفاء في الكثير من المحاصيل، وهذا يقودنا لمطلب مهم وهو دعم المزارعين بشبكات الري بالتنقيط، وباقي المنح التي تقدم للأسر حفاظاً على تواجدهم هناك، ودعم تمسكهم بأرضهم، وبالمقابل هناك اهتمام بالثروة الحيوانية، ويطالب هنا المربون بقيام الوحدة الإرشادية بدورها على أكمل وجه في إرشادهم لضمان نجاح عملية التربية التي تشكّل إحدى أهم دعائم البقاء هناك، وخاصة في مجال اللقاح الذي يقدم بشكل مجاني، لكن الطبيب يتقاضى ٣ آلاف ليرة، طبعاً لا يستطيع الأهالي الشكوى عليه خوفاً من “زعله”، وبالتالي لابد من وجود نواظم حقيقية في هذا المجال، كما يطالب المربون.

إله الطقس
مازالت البيوت القديمة هناك شاهدة على أصالة أبناء القرية، وامتداد جذورهم، فالآثار المتبقية فيها تدل على أنها كانت قرية نبطية مزدهرة، كما تنتشر فيها آثار تعود للعصر الآرامي، وحسب دائرة الآثار في السويداء فإنه تم رصد أكثر من عشرة مواقع في عوس تنسب إلى عصور مختلفة من النبطية إلى الإسلامية، إلى جانب مجموعة كبيرة من النقوش والكتابات اليونانية التي تؤرخ للكثير من الأبنية والصروح فيها.
ومن أشهر الآثار التي تم الكشف عنها في أحد بيوت القرية القديمة تمثال نادر لـ “حدد” إله الطقس عند الآراميين، وهذا التمثال يعود للقرن السابع قبل الميلاد، وهو منحوت من الحجر البازلتي، ويبلغ ارتفاعه 130 سنتمتراً، وبعرض نحو 60 سنتمتراً، وتم العثور عليه خلال جولة للجنة الآثار في جمعية العاديات على أحد المواقع الأثرية في عوس، حيث جرى نقل التمثال إلى المتحف الوطني بالسويداء.

مقصد سياحي
إذا كان الطريق إلى القرية لا يسر الخاطر لجهة “تحفره”، إلا أن سحر الطبيعة والجمال فيها تشبع رغبة الزائر لها في الاستمتاع بجمال الطبيعة، والساعي لاكتشاف معاني الصلابة والصمود، فكل قطعة من ذلك المكان تروي عشرات القصص التي تحتاج إلى وقفة تأمل وإدراك حقيقية، وأكثر ما يلفت الانتباه أنه رغم بساطة العيش، والافتقار للعديد من مقومات الحياة، إلا أن مطالب الأهالي انحسرت في مطلب واحد وهو زيادة الاهتمام بقريتهم كمنطقة تملك من الأوابد الأثرية ما يؤهلها أن تكون مقصداً سياحياً، وقبلة لكل الباحثين عن جمال الطبيعة والمغامرة، فهل تقول السياحة والآثار كلمتهما، أم أن هناك خوفاً من أن تضل تلك الجهات طريقها فتذهب باتجاه آخر؟!.

رفعت الديك