ثقافةصحيفة البعث

غربة المثقّف أم غربة الثّقافة؟!

 

 

مثالنا على ما نودّ قوله هنا، هو مثقّف إشكاليّ مرّت تجربته الفكريّة الغنيّة في طوري “الصّعود والهبوط”، فبدت “ثابتة” كالشّمس بإيمانها بالعبقريّة الذاتيّة، وبالجاحظ، وبالأساتذة المفكّرين، وبحقارة الأدباء المغرورين، وبالشكوى من الزمان، و”متردّدة” حائرة بين خياراتٍ عدّة: (أينحاز إلى التّصوّف أم إلى الفلسفة، إلى القناعة الراضية أم النّقمة الثائرة، إلى الإيمان بالحظّ أم إلى الشّكّ في عدل السّماء، إلى الدنيا أم إلى الآخرة؟). إنّه “أبو حيّان التوحيدي” الذي وصفه “ياقوت الحموي”: “بالتّفنن بجميع العلوم من النّحو واللّغة والشّعر والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة”. وأضاف غيره، في التصوّف والتاريخ وأنواع الخطوط، وأنّه أبلغ من كتب في فنّ المناجاة، على خير ما يعرفه من يتّصلون بهذه العلوم، لكنّ التاريخ لم ينصفه على رأي الدكتور “إحسان عباس” الذي رأى في تحليل “إشبنجلر” ما ينطبق على أبي حيان التوحيدي تماماً، حين قال: “إن أغسطس التّافه صنع عصراً، أما طيباروس فمضى دون أن يترك أثراً، كذلك هي حظوظ الفنّانين، والفنون والأشكال الفنية والمذاهب والنظريات والمكتشفات” ويتابع الدكتور عباس قائلاً: “في تاريخ النثر العربي، حلقة لم يصنعها أبو حيان، وإنّما توفّر على صياغتها الصّاحب بن عباد وابن العميد وأبو الفضل المكيالي، وأشباه هؤلاء الذين يمكن أن نصفهم بالتفاهة، دون تحرّج إن كان أغسطس نفسه بنظر اشبنجلر إنساناً تافهاً.

غربة المثقّف:
لم تنفعه علاقاته بأصدقاء متنفّذين، قرّبوه من زعماء عصره السّياسيّين “القرن الرابع الهجري” الوزراء: “ابن سعدان، الصّاحب بن عباد، ابن العميد الخ..” بأن يعلو عندهم أكثر من مرتبة “ورّاق أو ناسخ”، ولم يجد أجوبته عن الفقر المادي في الفلسفة الواثقة من أجوبتها، كما وجدها من اطمأنّ إليها كأستاذه “أبو سليمان المنطقي” القائل: “لا جرم متى وجدتَ عالماً وجدته خفيفَ المال، ومتى وجدتَ موسراً، وجدته خفيفَ البصيرة، فإن ندر شيء فذلك خارج عن القياس”، كما زادت حدّة شعوره بالهوّة الواسعة بين الحياة النّظريّة، وإمكانيّة تطبيق الأفكار العالية فيها، وكيف يتبوّأ الجهلة المناصب، ويموت المفكّرون بصمتٍ مهين في الظلّ والعتمة. تلك الظروف نفسها التي جعلت “ابن الراوندي” يخلع ربقة الدين، و”أبو سعيد الحصيري” يؤمن بالشك، ويرتاب كثيرون ويلحدون بالإسلام. يقول “أبو عيسى الوراق” راصداً ملامح هذه المفارقة بعد رؤيته لخادم خرج من دار الخلافة، ومظاهر الأبّهة تحيط به من كلّ جانب، فرفع رأسه إلى السماء متبرّماً بالقول: “أوحّدك بلغات وألسنة، وأدعو إليك بحجج وأدلّة، وأنصر دينك بكلّ شاهد وبيّنة، ثم أمشي هكذا عارياً جائعاً، ومثل هذا يتقلّب في الخزّ والوشيّ، والخدم والحشم، والحاشية والغاشية”. تكاثفتْ عليه الهموم ومتطلّبات الحياة الضروريّة، وهو على أبواب الشيخوخة، إذْ ما الذي يستطيع “أربعون درهما” في الشهر، أن يفعله لرجل مثله، قضى عمره كلّه بحثاً عن المعرفة، وكيف للوحشة ألّا تحتلّ كيانه كلّه “وقد كلّ البصر، وانعقد اللسان، وجمد الخاطر، وذهب البيان، وملك الوسواس، وغلب اليأس من جميع الناس” لذلك نجده في نهايات عمره يذهب إلى التصوّف كما بدأ شبابه الأوّل به، وقد وجدَ منفذه بالتّسليم، يقول في “الإشارات الإلهيّة”: “إذا ناجاك الحقّ بما يدقّ عن الفهم، فلا تحاكمه إلى نقص العقل.. إذا فتنك العقل بدقائق البحث، استقبله بحقائق التّسليم”. وهاهي غربة المثقّف تلوح بملامحها القاسية في قوله: “أين أنت من غريب قد طالت غربته عن وطنه، وقلّ حظّه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟ وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان.. ياهذا: الغريب من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعذّاله، من إذا ذكر الحق هجر، وإذا دعا إلى الحقّ زجر، الغريب من قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله…”.

إحراق كتبه:
ذات يوم وقد بلغت غربته ذروتها القصوى، أقدم بتهوّر على عملٍ خطير، وهو إحراق كتبه في ساعة من ساعات الكلل الذهني والنفسي والجسدي، وكأنّه بذلك ينتقم لنفسه من الدنيا والناس والزعامات والزمن الرّديء الذي لم يوفّر له المكانة اللائقة بموقعه الفكري، وقد لامه صديقه القاضي “أبو سهل علي بن محمد” على فعلته هذه فردّ عليه برسالة عام 400هـ معلّلاً ذلك بقوله: “كأنّك لم تقرأ قوله عز وجلّ: “كلّ شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون” وقوله: “كلّ من عليها فان”، فليهن عليك ذلك، فما انبريتُ له، ولا اجترأت عليه، حتى استخرت الله عز وجلّ فيه أياماً وليالٍ، حتى أوحي إليّ في المنام بما بعث راقد العزم، وأجدّ فاتر النية، وأحيا ميت الرأي، وحثّ على تنفيذ ما وقع في الروع، وتربّع في الخاطر، ثمّ اعلم.. أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيّته، فأمّا ما كان سرّاً فلم أجد له من يتحلّى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانيّة، فلم أصبْ من يحرص عليه طالباً..” أمّا ما وصلنا من كتبه فكان بسبب انتشارها بين الناس قبل الإحراق. وقد آثر بعدها العودة إلى “شيراز” وسواء أتوفّي سنة 414هـ أم قبلها، فلا يعرف عن نتاجه شيئاً في تلك الفترة.
أوس أحمد أسعد