دراساتصحيفة البعث

الأمم المتحدة.. العودة إلى شريعة الغاب

د. مازن المغربي

يبدو أن العالم يسير بشكل متسارع باتجاه التخلي عن ضوابط النظام الدولي المستند في الأساس إلى صلح ويستفاليا، الذي تمّ توقيعه في 24 تشرين الأول 1648، وأنهى حرب الثلاثين عاماً المدمّرة التي شاركت فيها كل القوى الأوروبية، وتجابهت خلالها الإمبراطورية الرومانية المقدسة والدويلات الألمانية، ووضع حدّ لحرب الثمانين عاماً التي اندلعت بين المقاطعات المتمردة والعرش الإسباني. تمخضت المفاوضات الطويلة المضنية عن اتفاقيات تحوّلت إلى أساس للعلاقات الدولية من خلال تبني مفهوم الدولة– الأمة، وهو مفهوم له مضمون نظري وسياسي وتاريخي يربط بين الدولة بوصفها أداة تنظيم سياسية وبين مجموعة من الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم يشكلون أمة موحدة، بالاستناد إلى معطيات مختلفة كاللغة والتاريخ المشترك والمصلحة، وكذلك من خلال تبني مفهوم السيادة الوطنية الذي يعني أن السيادة هي ملك الأمة المكوّنة من مجموعة محدّدة من الأفراد. تم اعتبار احترام السيادة الوطنية حجر الأساس في العلاقات الدولية بغضّ النظر عن حجم الدولة أو قوتها. صحيح أن هذا لم يمنع اندلاع الحروب واحتلال الأراضي، لكنه كان مبدأً توافقت عليه الدول الأوروبية التي عاشت في تلك الفترة مرحلة نهضة عامة وشاملة فرضت رؤيتها على مختلف أرجاء المعمورة.
لكن نموذج الدولة– الأمة لم ينتشر دفعة واحدة في القارة الأوروبية، بل مرّ بمرحلة مخاض طويلة وعنيفة تخللتها سلسلة من الحروب. أدى صلح ويستفاليا إلى تخليص أوروبا من حرب دموية أدّت إلى سقوط خمسة ملايين إنسان، وهذا رقم مرعب يبدو أمامه رقم ضحايا حربي القرن العشرين ضئيلاً. سادت في تلك الفترة مواجهة بين مفهومين للدولة: أولهما الدولة الفضفاضة التي مثّل أنموذجها الأبرز الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي ضمّت كيانات وإمارات ومدناً- دول، وكانت المثال الملهم لطغمة مالية حلمت بتصفية كل مكاسب عصر النهضة والعودة إلى شكل الحكم المطلق، وكانت سلالة هابسبورغ هي الممثل الوحيد للطغمة المالية وانقسمت إلى فرعين، فرع إسباني وآخر نمساوي واستند الفرعان إلى سلالة من أصحاب المصارف من عائلة فوغر دوبسبورغ تحكمت بالمال وبالمعادن الثمينة وبالبابوية وكانت وراء إشعال الحروب الدينية، وثانيهما الدولة– الأمة التي ظهرت في فرنسا في ظل حكم الملك لويس الحادي عشر، وتمّ تطويرها من قبل سلالته، وبلغت أوجها في ظل لويس الرابع عشر.
إذن كان صلح ويستفاليا هو الذي أرسى أنموذج العلاقات الدولية الذي استمر أكثر من ثلاثة قرون ونصف وفرض نفسه على كل المعاهدات الدولية التي عقدت لاحقاً، بما في ذلك إنشاء عصبة الأمم التي قامت في أعقاب الحرب العالمية الأولى بالاستناد إلى معاهدة فرساي 1919، وكان الهدف المعلن هو الحفاظ على السلام في أوروبا وفق التصور الذي تمّ إرساؤه في مؤتمر السلام في باريس. لكن المؤتمر عانى من مشكلة حقيقية تمثلت برفض المنتصرين الإقرار بمبدأ السلام دون إلحاق أراض ودون تعويضات. كما رفض الحلفاء المنتصرون الإقرار بحق شعوب أفريقيا وآسيا في إقامة دول حديثة على أساس مبدأ الدولة– الأمة، ومثّل ذلك تراجعاً عن الوعود التي بُذلت للشعوب الناطقة باللغة العربية في شرقي البحر المتوسط، وتمّ ابتداع فكرة الانتداب للتمويه عن واقع الاستيلاء على أراضي شعوب لم تعرف الحياة ضمن دولة وطنية. كانت عصبة الأمم تجمعاً غلب عليه الطابع الأوروبي على الرغم من مشاركة اليابان التي كانت قد نجحت في احتذاء الأنموذج الأوروبي للدولة الحديثة، حيث رفضت الولايات المتحدة المشاركة فيها على الرغم من أن فكرة إنشاء تلك المنظمة اعتمدت على المبدأ الأخير من المبادئ الـ 14 التي أعلنها رئيس الولايات المتحدة، وودرو ويلسون، لكن التطورات السياسية دفعت كلاً من ألمانيا وإيطاليا واليابان لمغادرة عصبة الأمم، الأمر الذي مهّد الطريق أمام اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ضمّت المنظمة في أوجها 42 بلداً، وكان العراق، أول بلد ناطق بالعربية ينضم إليها، عام 1932، وتلته مصر، في 1937. لكن صلف الحكومات الأوروبية المتجذّر دفعها لحرمان الكثير من الشعوب من الحصول على حق تقرير المصير وإنشاء دولة حديثة. وكالعادة تمّ تغليف الإجحاف بستار من حجج قانونية وتاريخية تم تجسيدها ضمن إطار ما عُرف بنظام الانتداب الذي كان على ثلاث درجات: – الدرجة أ، الخاصة بأراضي الإمبراطورية الجرمانية والدولة العثمانية، وهي مناطق وصلت إلى درجة متقدمة من الرقي وصار بإمكانها إنشاء دول لكن تحت رعاية الدول المنتدبة التي أُنيطت بها مهمة تقديم المشورة. – الدرجة ب، وتتعلق بمناطق تم تكليف القوى المنتدبة بضمان حرية الرأي والحرية الدينية فيها، والمحافظة على النظام الاجتماعي والأخلاقي، ومنع الاتجار بالرقيق وتهريب الأسلحة والكحول، ومنع سكان البلاد من إقامة قواعد عسكرية وبحرية إلا بهدف الدفاع عن البلاد، إضافة إلى ضمان التبادل التجاري الحر مع أعضاء عصبة الأمم. وكان هناك مناطق اعتبرت قليلة الكثافة السكانية، وبالتالي غير قادرة على إدارة شؤونها بمفردها، كما هو حال اتحاد جنوب أفريقيا وفلسطين. ومن الجلي أن المقصود بضعف الكثافة السكانية هو قلة عدد اليهود في فلسطين في تلك الفترة، حيث لم يتجاوز عددهم 12% من مجموع السكان، ولم يتملكوا سوى 3% من أراضي البلاد، وكذلك قلة عدد المستوطنين الأوروبيين في اتحاد جنوب أفريقيا. كان هناك أربع عشرة منطقة انتداب أشرفت عليها ست دول (فرنسا وبريطانيا وبلجيكا ونيوزيلاندة واليابان وأستراليا)، ولم تتمكن الدول الخاضعة للانتداب من الحصول على استقلالها إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
كانت السياسات الخرقاء للدول المنتصرة هي التي عبّدت الطريق أمام اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبعد انتهاء الحرب، تمّ إنشاء منظمة الأمم المتحدة بديلاً عن عصبة الأمم، وشارك في تأسيس المنظمة 51 دولة، وكانت الجمهورية السورية من عداد الدول المؤسّسة التي سعت إلى تفادي تكرار الأخطاء التي عانت منها عصبة الأمم، بحيث انحصر دورها في رعاية مشاورات دبلوماسية دون وجود آلية لإصدار قرارات ملزمة للأعضاء، ولهذا الغرض، تمّ تشكيل مجلس الأمن ومنح خمسة أعضاء مقاعد دائمة مع امتلاك حق النقض، وتمّ تحديد أهداف المنظمة المتمثلة في الحفاظ على السلام العالمي، وتطوير علاقات الصداقة بين الدول، وتحقيق التعاون الدولي وتحويل المنظمة إلى مركز لتنسيق جهود الدول الأعضاء خدمة للأهداف المشتركة.
صار من الجليّ أن المنظمة الدولية فشلت في تحقيق أهدافها حيث شهد العالم خلال الفترة من 1945 إلى 1990، أكثر من 61 صراعاً مسلحاً. ويعتبر العام 1990 مفصلياً لأنه دشّن بداية انفلات الولايات المتحدة وحلفائها من ضوابط القانون الدولي، حيث شهد العام 1991 اندلاع 7 حروب، في حين بلغ عدد المواجهات المسلحة، في الفترة ما بين 1991 و2016، سبعين حرباً. لكن مصادر الأمم المتحدة تصرّ على التباهي بتراجع الحروب استناداً إلى تعريفها الخاص وفق ما ورد في وثائق الصليب الأحمر الدولي، والذي حدّد نمطين من الحروب: صراع مسلح دولي بين دولتين أو أكثر، ومواجهة غير دولية بين قوات حكومية ومتمردين ضدها، أو صراع بين مجموعات مسلحة في بلد ما.
وهنا لا بد من التساؤل حول توصيف الأمم المتحدة للحرب التي شنّتها دول التحالف الأطلسي ضد سورية، الدولة ذات السيادة والعضو المؤسّس في منظمة الأمم المتحدة؟ هل يعقل أن الضربات الجوية والصاروخية، والتشويش على الاتصالات، وإنزال قوات عسكرية، وإنشاء قواعد عسكرية دون تصريح من حكومة البلاد، لا تدخل ضمن إطار حرب عدوانية يفترض بالأمم المتحدة إدانتها؟.
بعيداً عن الأوهام، صار من الواضح أن منظمة الأمم المتحدة تحوّلت إلى واجهة تتستّر خلفها قوى كبرى تطمح للسيطرة على العالم، كما صار من الجليّ أنه قد تمت صياغة ميثاق الأمم المتحدة بما يتعارض مع الدور المعلن للمنظمة الدولية، حيث نصت المادة 6 من الفصل 2 على أنه إذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق جاز للجمعية العامة أن تفصله من الهيئة بناء على توصية مجلس الأمن. وكلنا نعلم أن مجلس الأمن مرتهن لمصلحة القوى صاحبة الفيتو، وأن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا هي بالتحديد الدول التي تمعن في انتهاك ميثاق المنظمة، بل إن الدولة المضيفة واظبت حتى على انتهاك شروط استضافة المنظمة الدولية، حيث أثبتت الوثائق التي سرّبها موقع وكيليكس، العام 2009، أن الولايات المتحدة قامت بجمع معلومات حول أعضاء الوفود المشاركة في نشاطات المنظمة، وكان هناك تركيز خاص على دبلوماسيي سورية وكوريا الديمقراطية وكوبا، حيث تمّ اختراق الحسابات البريدية والمصرفية ومخططات العمل، وتم توثيق بصمات الأصابع والعين والحمض النووي الخاصة بأعضاء تلك الوفود بطريقة غير قانونية. وبالتالي صار من الضروري التخلي عن وهم قيام المنظمة بتنفيذ أهدافها لأن ما نراه حالياً هو عودة إلى شريعة الغاب.