دراساتصحيفة البعث

الذهب الأسود الجديد للقرن الحادي والعشرين

ترجمة وإعداد: إبراهيم أحمد

على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي انعقد في دافوس -الخامس والعشرين من كانون الثاني 2019- وقعّت /76/ دولة على بيان مشترك حول التجارة الإلكترونية، جدّدت من خلاله تأكيد عزمها على «الشروع في مفاوضات ضمن نطاق منظمة التجارة العالمية حول الجوانب التجارية المرتبطة بالتجارة الإلكترونية».

التجارة الإلكترونية هي مصطلح حديث العهد، ظهر في الآونة الأخيرة، ويشير إلى الأنشطة والمعاملات التجارية التي يتمّ إجراؤها باستخدام تقنيات المعلومات ووسائل الاتصال والإنترنت، إذ يعدّ الإنترنت أهمها، لكن بالرغم من حداثة عهد ظهورها إلّا أنّها أحدثت نقلة نوعية هائلة في مجال التجارة، وجعلتها تتمّ بسلاسة وسهولة كبيرة، إذ قدّمت الكثير من الفوائد للبشرية، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى المؤسسات والشركات التجارية المختلفة، أو على مستوى المجتمع بأكمله.

فوائدها للأفراد

أتاحت الفرصة أمام الكثير من الأفراد للعمل من منازلهم، ومكّنتهم من عمل المشاريع التجارية وتطويرها دون وجود رأس مال لتدرّ عليهم أرباحاً هائلة وبالعملة الصعبة. وفتحت الأبواب أمام عمل ربات البيوت وذوي الاحتياجات الخاصة والمتقاعدين للعمل في هذا المجال من منازلهم، الأمر الذي جعل لهم دوراً مهماً في عملية التنمية. ومكّنت جميع الأفراد من إتمام جميع معاملاتهم التجارية خلال فترة زمنية قصيرة جداً، خلال أي وقت في اليوم ومن أي مكان على سطح الأرض. وإرسال البضائع بسهولة وسرعة فائقة، خاصةً في حال المنتجات الإلكترونية، والسماح للأفراد بتبادل الآراء والخبرات بشأن الخدمات والمنتجات عن طريق مجتمعات إلكترونية على الإنترنت.

فوائدها للشركات التجارية

مكّنت التجارة الإلكترونية من توسيع السوق حتى يصل إلى نطاق دولي وعالمي. وعملت على تخفيض تكاليف إنشاء ومعالجة وتوزيع وحفظ واسترجاع المعلومات الإلكترونية. ومكنت التجارة الإلكترونية الشركات من تصنيع منتجاتها وفقاً لما يرغبه المشتري، الأمر الذي يجعل لتلك الشركة الأفضلية بين الشركات الأخرى، وقلّلت التجارة الإلكترونية من الوقت الفاصل بين دفع المال والحصول على المنتجات والخدمات.

فوائدها للمجتمع

تسمح التجارة الإلكترونية بإتمام العمل من المنزل، وهذا ما يقلّل الازدحام وخاصةً الازدحام المروري والتلوث الناجم عنه. ومن الممكن إيجاد بضائع من خلال التجارة الإلكترونية ذات أسعار زهيدة، الأمر الذي مكّن ذوي الدخل المحدود من شرائها، ومكّنت هذه التجارة الناس القاطنين في دول العالم الثالث من الحصول على منتجات وبضائع لا تتوفر في بلدانهم.

مصطلح «التجارة الإلكترونية» في حدّ ذاته مخادع ومضلل. منذ 1998، عرّفته منظمة التجارة العالمية على أنه «إنتاج وتسويق وبيع وتوزيع منتجات بواسطة شبكات الاتصالات». هذا التعريف الغامض، الذي يتوافق من حيث الأصل مع شراء وبيع بضائع أو خدمات على الإنترنت، أصبح ينطبق مؤخراً على التدفق العالمي للبيانات، هذا الذهب الأسود الجديد للقرن الحادي والعشرين. في رأي الكثير من الملاحظين إن «وراء حصان طروادة المسمّى بالتجارة الإلكترونية» نجد، بحسب ألبرتو روبلس من معهد علم الشغل جوليو- غوديو ببيونس آيرس، ملكية لبيانات، هما أمران ليس لهما أية علاقة ببعضهما البعض. إنهم يحدثوننا عن التجارة الإلكترونية ويقولون لنا إنه علينا أن ندخل حقبة الحداثة، وإن كل البلدان ستستفيد من ذلك، إلخ، ولكن السؤال المهم هو: من يتولى المراقبة؟. في الوقت الحاضر، الأمر في يد الشركات الكبرى وحدها وبالفعل، على غرار غوغل وأمازون وفيسبوك وميكروسوفت وباقي شركات التكنولوجيات الرقمية العملاقة، وهي الأطراف التي استفادت، وبشكل واسع، من الفراغ القانوني والتنظيمي، كي تكرس واقع «احتكار القلة». ومن أجل استدامة مثل هذه الوضعية، استثمرت هذه الشركات منذ سنة2010 جهوداً ضخمة بهدف حشد دعم ومساندة مهندسي السياسات الاقتصادية والتجارية في الولايات المتحدة، وكان هدفهم الدفاع عن مبادئ، مثل التدفق الحر للبيانات أو رفض كل إلزام بتحديد حيّز مكاني لتخزين المعطيات الشخصية.

يشكّل اتفاق الشراكة بين دول المحيط الهادي، الموقّع في شباط 2016، أول انتصار حاسم تحقّقه الصناعة الرقمية. القسم المتعلق بالتجارة الإلكترونية ضمن هذه المعاهدة يعيد تقريباً كلمة بكلمة أبرز المطالب التي عبّرت عنها لوبيات، على غرار «جمعية الإنترنت» و«جمعية الحاسوب وصناعة الاتصال»، اللتين تضمان في عضويتهما كبرى شركات القطاع. في خطوة تلت مباشرة هذه المعاهدة، قام مكتب الممثل الأمريكي للتجارة، الذي كان يقوده وقتها روبرت هولايمان، أحد المسؤولين السابقين في لوبي رقمي آخر، هو «تحالف شركات البرمجيات»، بتلخيص مضامين المعاهدة في وثيقة بعنوان «ديجيتال2دوزن»، ودعا إلى اعتماد هذه الوثيقة كمرجعية بالنسبة للمفاوضات المستقبلية. من بين المبادئ  الـ24 التي تمّ استحضارها، نجد: «السماح بالتدفق العابر للحدود للمعطيات» (المبدأ 4)، والتوقي من العوائق المرتبطة بالتحديد الجغرافي لأماكن تركيز البرمجيات (المبدأ 5)، وتحجير نقل التكنولوجيات بطريقة الإجبار (المبدأ 6)، وأيضاً حماية مصادر الشيفرات (المبدأ 7).

في العام 2017، جاء انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة، حتى قبل دخولها حيّز النفاذ، ليهزّ كيان الشركات. لكن ومنذ سنة 2018، أبرمت البلدان الأعضاء الأخرى في المعاهدة اتفاقاً جديداً، تمّ تضمينه مجمل فصول اتفاق الشراكة بين دول المحيط الهادي المتعلقة بالتجارة الإلكترونية. بالتوازي مع ذلك، أفضت عملية إعادة التفاوض حول اتفاق التبادل الحر لشمال أمريكا (Alena) بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، إلى وثيقة تعمّق حدة التوجه، ولاسيما في مجال حماية مصادر الشيفرات والخوارزميات. غير أنه تبيّن أن تضاعف هذه الفصول والشروط ضمن عدد أقصى من الاتفاقات، يمثّل إستراتيجية غير مجدية. بالفعل، تشهد المعاهدات الرئيسية حالة تعثر أو تمّ التخلي عنها (الشراكة عبر الأطلسي للتجارة والاستثمار، الاتفاق العام حول تجارة الخدمات.. إلخ). كما أن إعادة توجيه السياسة التجارية بدفع من دونالد ترامب من شأنها استبعاد أفق إمكانية تحقيق تقدم جديد.