تطور نظريات الاتصال.. أين هي من الإعلام الجديد؟
رغد خضور
شكّلت عملية الاتصال هاجساً لدى الباحثين، من مختلف العلوم، لدراستها ووصف أبعادها ومراحلها، والتي يعتبرها البعض أنها تمثّل تطور التاريخ البشري، فالاتصال سمة إنسانية تتحقّق عبر وسائل عدة، تطورت بدورها مع تطور حاجات البشرية، لذا عمل الباحثون على تحليل هذه العملية وعناصرها، ووضعوا فرضيات توصلوا من خلالها إلى نظريات أوضحت تأثيرات الوسائل المستخدمة لإيصال الرسائل ومدى فعاليتها بتوجيه الأفكار وتشكيل الآراء.
وكل وسيلة اتصال كانت تشكل ميدان بحث واسعاً لدى الباحثين في مجال الاتصال والإعلام. بداية كان الاتصال فردياً، يعتمد على الكلام المنقول من شخص لآخر، تطور بعدها لإرسال الرسائل المكتوبة، لتأتي الطباعة وتشكل قفزة نوعية في هذا المجال مع انتشار المطبوعات والصحف، تلاها الإذاعات والتلفزيونات، وأخيراً كانت مرحلة الاتصال الإلكتروني.
الباحثون تسابقوا لدراسة هذه الوسائل وكيفية تأثيرها على الجماهير، والتي أدّت للانتقال من الاتصال الفردي إلى الاتصال الجماهيري، وكيف شكلت تلك الوسائل جسراً لإيصال المضامين المختلفة إلى جمهور عريض من أفراد المجتمع.
تطور تأثيرات الاتصال ووسائله
في البداية كان الحديث يدور حول التأثيرات القوية لتلك الوسائل على الجماهير، لدرجة شبّهها بعض الباحثين بتأثير “الرصاصة السحرية” أو “الإبرة تحت الجلد” التي تصيب هدفها بدقة، فالهدف الرئيسي من وسائل الإعلام والاتصال كان تحريك الناس باتجاه معيّن، وتشكيل رأي عام في المجتمعات التي تنتشر فيها. وهذا الأمر دفع بالبعض للوقوع في “دوامة صمت”، لأن آراءهم كانت تخالف رأي الجماعة، الذي تشكل نتيجة نشر وسائل الاتصال لمضامين معيّنة على أنها هي رأي الغالبية، لذا كان على من يخالف تلك التوجهات أن يلتزم الصمت، والإنسان بطبيعته يفضل عدم إبداء رأيه إذا شعر أنه لا يتوافق مع محيطة خوفاً من العزلة الاجتماعية.
لكن هذا الاتجاه والقول بالتأثير القوي لوسائل الإعلام والاتصال لم يلقَ إقبالاً لدى قطاع عريض من المهتمين بهذا المجال، خاصة وأنه كان ينظر للفرد على أنه كائن سلبي يتلقى التنبيهات الواردة إليه عبر الرسائل الإعلامية ويندفع بالشكل الذي يراد له أن يتخذه.
ولأن الفرد ليس بمعزل عن بيئته المحيطة، ولا يمكنه التنكر لتركيبته الشخصية والنفسية وخبراته السابقة، لذلك تحول النظر إلى العلاقة التي تربط وسائل الاتصال بالأفراد بناءً على أن تلك الوسائل ليست من يحدّد للجمهور ما يجب أن يتلقاه، بل إن لدى الجمهور حاجات مختلفة يسعى لإشباعها من خلال “استخدام” مضامين إعلامية ووسائل معينة، وبالتالي فإنه من يتحكم بالمضامين التي يتعرض لها، ويعتمد عليها، لذا اتجهت وسائل الإعلام إلى إنتاج مضامين أكثر تنوعاً وشمولاً، تغطي الحاجات المختلفة للأفراد، بأسلوب مميّز ومكثف يمكّن المتلقي من انتقاء المعلومات والأفكار التي تؤيد اتجاهاته.
للمرسل دور في أبحاث الاتصال..
للاتصال بعدٌ حاسمٌ في الحياة الاجتماعية، ولعقود، شهدت وسائل الاتصال تغيرات ضخمة، ويمكن القول إن التغيّر الرئيسي، بحسب غالبية الباحثين، هو تحول نظم الاتصال من توزيع الرسائل الجماهيرية، إلى الميل نحو تحديد تلك الرسائل وتصنيفها، أي تفتيت الجمهور وتقديم رسائل تلائم الفئات والجماعات المتخصصة كافة في المجتمع.
دراسات الاتصال لم تقتصر على الرسالة والمستقبل والتفاعل بينهما وحسب، بل كانت للقائم بالاتصال، الذي يعدّ طرفاً أساسياً ومؤثراً مهماً في العملية الاتصالية ولا يمكن إغفال دوره، وحصته منها، فهو “حارس البوابة” الذي يتحكم بالرسالة، ويحدّد ما يصل من أخبار إلى الجمهور وما يحجب منها، ضمن “أطر” سياسة الوسيلة التي يتبعها، إذ يرى الباحثون أن “الحدث لا يكتسب أي معنى إن لم يوضع في إطار معين يحدّده ويوضح أبعاده، من خلال التركيز على جوانب من القضية وإغفال أخرى”، ومنه فإن وسائل الإعلام ساهمت في “ترتيب أولويات” الجمهور، ودفعه للتفكير باتجاه معيّن.
الإعلام الجديد..
تطور عناصر العملية الاتصالية لم يقف عند حدود الوسائل التقليدية، وما لها من دور في “غرس” المفاهيم والمعتقدات بمجتمعاتها، فمع انتشار شبكة الانترنت، ظهرت تكنولوجيا الاتصال الجديدة التي أدّت لاتساع شبكة الاتصالات أكثر، وساهمت في نشر المعلومات والآراء بين الجماعات والأفراد، متجاوزةً حدود الزمان والمكان، حيث أصبح للوسائل الإلكترونية دور مهمّ في حياة المجتمعات، تؤثر على أبعادٍ عدة فيها.
ورغم ذلك، لم تحظَ الوسائل الجديدة بنظريات خاصة بها، حيث بقي الباحثون يعتمدون على النظريات القديمة ويسقطونها عليها، مع الأخذ بالحسبان الأساليب الجديدة في الاتصال وتوظيف تلك النظريات بما يخدم دراستهم.
هذه الوسائل الحديثة غيّرت الكثير في مجال نظريات الاتصال، حيث أتاحت للجمهور أن يتحوّل من مجرد متلقٍ للوسيلة إلى مستخدم لها، يتفاعل ويعلق على المضامين المنشورة ويقيّمها، وهذه الميزات الجديدة غيّرت قليلاً في عناصر العملية الاتصالية، فالمستقبل بفضلها أصبح مشاركاً في صناعة الحدث وتكوين الرسالة الإعلامية وتحديد معالمها، ولن نبالغ إن قلنا إنه هو من بات يحدّد أولويات الوسائل الإعلامية ويدفعها للتركيز على القضايا التي يريدها.
صحافة المواطن..
وسائل الإعلام الجديدة أدّت لظهور مصطلح “صحافة المواطن”، الذي يشير إلى الأفراد الذين يلعبون دوراً في جمع وتحليل ونقل ونشر المعلومات والأخبار، ومن خلاله أُتيحت الفرصة أمام أي شخص ليكون صحفياً، ينقل مشاهداته وآراءه عن العالم. ورغم أنها تخضع، في أغلب الأحيان، لوجهة نظر خاصة وغير موضوعية وتفتقد بالمجمل، إلى التوثيق والحياد، إلا أن ذلك لا يلغي أنها تتمتّع بالمصداقية إلى حدّ كبير، وشهدنا على ذلك أمثلة كثيرة خلال السنوات الماضية، تحوّلت فيها صفحات ومدونات شخصية إلى مصدر للأخبار والمعلومات، يحظى بشعبية واسعة لدى الجمهور!.
الصحافة التقليدية ليس لها جوازات مرور لكل الأماكن، لذا أعطت هذه الظاهرة إعلاماً بديلاً، دفعت بالوسائل “الكلاسيكية” لتغيير ممارساتها الإعلامية بما يتناسب مع متطلبات العصر الجديدة، فكم من قائم بالاتصال يبحث في صفحات التواصل الاجتماعي والمدونات الشخصية ليلتقط ما يتحدث عنه الناس ويسلّط الضوء عليه، يوضحه، يدعمه أو يفنّده.
نظريات جديدة وبحوث متخصصة..
في المجتمعات المتطورة تعمل مراكز الأبحاث على سبر حالة المجتمع وتحليلها للحاق بركب التطورات الحاصلة، لذا نحن اليوم أحوج ما نكون إلى بحوث متخصّصة في مجال الإعلام والاتصال توصلنا إلى نظريات جديدة تساهم في تفسير الظواهر الإعلامية والاتصالية بشكل أفضل، بما يساعد على فهم ما يريده الجمهور، لتتمكن وسائل الإعلام، التقليدية والإلكترونية، من صياغة مضامين أكثر إقناعاً وتأثيراً، وتتخلص من النمطية في رسائلها ودراساتها وأبحاثها.