“٣حكايا”.. عبث يحدث هنا أيضا.!
يعد مسرح العبث من أهم البدع التي تركت أثرا في الحركة المسرحية العالمية على مدى عقود طويلة، وقد يرجع السبب في ذلك إلى اعتمادها على البساطة في محاكاة قضايا اجتماعية وسياسية كبيرة تسعى لتفكيكها وإعادة تدويرها لتقريبها من أمزجة المتلقين المتباينة، وجعلها تتسلل إلى وجدانه بشكل لا إرادي بخفة خيط دخان. وقد اشتغل الكثير من المسرحيين على هذا التجريب لخلق حالة جدلية في مياه المسرح الراكدة، يمكن أن نجمل منهم الكاتب الأرجنتيني أوزفالدو دراجون صاحب ثلاثية “قصص تروى” التي اشتغل عليها الفنان أيمن زيدان في عرضه المسرحي “٣ حكايا” الذي عرض أمس على مسرح دار الثقافة في حمص، محاولا إيجاد صيغة مسرحية تتخطى حالة العبث الصرف إلى توليفة يماهي فيها بين مسرح الجوال مع الحكواتي عبر ثيمة “يا سادة يا كرام” ومسرح الدمى ليبهرنا بفرجة تعري الواقع المعاش بقسوة البرد الاجتماعي المتحجر في صناديق ضمائرنا المتعبة، فخلف كل ضحكة يزرع زيدان غصة تخرج مقهورة من عيوننا. تبدأ مع “ضربة شمس” وهي حكاية عامل فقير وبائع جوال يعاني من ألم متواصل في أسنانه يعجز عن علاجه لأنه يحتاج إلى نفقات ينوء تحت ثقلها، من أجرة طبيب وتصوير وتحاليل وغيرها، فيضطر لتحمل الألم بمساعدة زوجته إلى أن يموت فيقرر رؤساؤه في العمل نحت تمثال له كرمز للعامل الكادح المتفاني في عمله ويلتقطون الصور التذكارية بجانبه ضمن مفارقة يؤكد العرض بشكل مباشر على أنها موجودة بيننا عبر تكرار تذكير الجمهور بأنها من واقعنا وليست من وحي خيال ممثلين، حتى ولو أكد الممثلون على الخشبة عبر كسر الجدار الرابع لإشراك الجمهور في العرض بأنهم ممثلون جاؤوا إليه بسبب الظروف الأمنية التي منعتهم عن الشارع والتجوال والعرض فيه، فهم ليسوا أكثر من ممثلين يرتجلون في مخاطبة الجمهور والتلفظ بأسمائهم الحقيقية.
الحكاية الثانية “صديقنا بانشو” فهي قصة المهندس بانجينو غونزاليس الذي يبحث عن فرصة عمل يحلم من خلالها تحسين وضعه المالي لإعالة أولاده الأربعة وزوجته، وعندما تأتيه الفرصة في إحدى الشركات الغذائية، يخضع لابتزاز وضغط رؤسائه الجشعين لتأمين لحوم رخيصة توفر نسبة أرباح كبيرة تنعكس بالغنى عليه وعلى مرؤوسيه فيلجأ إلى لحوم الجرذان لتعليبها وبيعها للناس وعندما تنجلي الحقيقة وتنكشف المأساة بانتشار مرض الطاعون يتملص التجار الجشعون من القضية ويلبسونها للمهندس المسكين الذي يلجأ للانتحار والتخلص من فضيحته وألم ضميره. هذه الحكاية رغم أنها تنسب في العرض إلى جنوب أفريقيا لكن الممثلين لا يغفلون تذكيرنا بأنها تحدث بيننا أيضا.
الحكاية الثالثة الأكثر عبثية وسوداوية وكوميدية هي “الرجل الذي صار كلبا” في هذه الحكاية يضطر دييغو لقبول عمل فيه من الهزل والمفارقة ما يضعنا أمام واقع عبّر عنه المسرحي السوري ممدوح عدوان في كتابه”حيونة الإنسان” حيث يجرد الآدمي من آدميته في محاكاة تهكمية ساخرة.
يضطر دييغو، بعد تردد قبول العمل كلب حراسة في إحدى المزارع ويسكن بيت الكلب وينبح على المارة لدرجة أنه ينسى فيها إنسانيته ويعجز عن النهوض والسير على قدمين بدل من أربع، حتى أنه يخشى أن تلد زوجته الحامل جروا بدلا من طفل بشري.
قدم زيدان عرضا نابضا بالحركة والإدهاش لعب فيه الممثلون الخمسة: حازم زيدان، قصي قدسية، لمى بدور، مازن عباس، خوشناف ظاظا، شخصيات متعددة معتمدين على أقنعة ومكياج المهرج وإكسسوارات بسيطة وقطع ديكور خفيفة ومتنقلة برشاقة وخفة لم تترك أثرا سلبيا على سوية الأداء والإيقاع المتوازن، رغم أنهم لا يغادرون الخشبة أو يدعون فاصلا بين الحكاية والأخرى، فقد استمر العرض من البداية حتى النهاية ضمن تفاعل دراماتيكي متواصل شد المتلقي وخلق جوا تفاعليا دائريا متبادلا أراده تهريجا عبر مكياج المهرج، لكنه جمع فيه بين دور المهرج الكوميدي المتهكم والتراجيدي المؤلم.
اللافت في هذا السياق أن الفنان أيمن زيدان المتعدد فنيا من المسرح إلى السينما والتلفزيون يتفرد دائما في أن يخص جمهور المحافظات الأخرى وإشراكهم في أعماله مبتعدا عن تلك المركزية التي يعتقد بعض الفنانين أنها تكفي لإثبات الحضور، وهذه البادرة تحسب له وتؤكد تواضعه وشغفه الفني المتنوع وحرصه الدائم على محاورة مختلف الشرائح الاجتماعية.
آصف إبراهيم