دراساتصحيفة البعث

“مغالطة” الحرب التجارية الأمريكية الصينية

ترجمة وإعداد: عناية ناصر

القول بأن هناك حرباً تجارية بين الولايات المتحدة والصين هو مغالطة كبيرة، لأن الحرب التجارية الحقيقيّة تحدث عندما تحاول دولة ما حماية صناعاتها عن طريق فرض حواجز جمركية على استيراد سلع أرخص من دول أجنبية، أو تقدم إعانات للمصنّعين المحليين لخفض تكاليف الإنتاج من أجل منافسة المنتجات المستوردة. وعادة ما تدور الحروب التجارية حول الحمائية، لذلك هذه الجولات من الرسوم الجمركية على البضائع القادمة من الصين لا تحمي أي صناعات أمريكية. وفي الحالة الراهنة، هناك العديد من السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة هي من صنع الشركات الأمريكية في الصين، فمن أصل 539 مليار دولار أمريكي هي قيمة صادرات الصين إلى الولايات المتحدة، وأن جزءاً كبيراً منها قاوم تجميع الشركات الأمريكية في الصين، هناك 20 في المئة أخرى هي منتجات تصنيع معدات أصلية تنتجها للشركات الأمريكية، وهنا لا يتمّ دفع الرسوم الجمركية من قبل الصين، فإما يتمّ استيعابها من قبل الشركات الأمريكية، مما يقلّل من الأرباح، أو تمرّر إلى المستهلكين الذين يدفعون أسعاراً أعلى للبضائع، وهو ما يزيد من التضخم. ووفقاً لتقديرات جيه بي مورغان تشيس -بنك أمريكي متعدد الجنسيات للخدمات المالية المصرفية- فإن التعريفات ستكلف الأسرة الأمريكية المتوسطة نحو 1000 دولار أمريكي في السنة.

الشيء الوحيد الذي سيؤذي الصين هو انخفاض الطلب على السلع المرتبطة بالولايات المتحدة، وبالتالي تقليل بعض الوظائف. ومع ذلك، فإن الصين تخفض قيمة عملتها، اليوان، لتعويض الرسوم الجديدة، لأن تعريفات ترامب قد تفرض ضغوطاً على الشركات المصدّرة إلى الولايات المتحدة من الصين للانتقال إلى دول ثالثة، وهو شيء يحدث بالفعل بسبب ارتفاع معدلات العمالة الصينية، وهو ما ينظر إليه على أنه سياسة “الأرض المحروقة” التي ينتهجها ترامب، لكن إذا لم تستطع الولايات المتحدة إنتاج البضائع المتجهة إلى الولايات المتحدة، فلا ينبغي على الصين إنتاج تلك البضائع. والنتيجة المترتبة على استمرار هذا الإجراء هي المزيد من الانتقام من الصين، وانخفاض الطلب الكليّ في جميع أنحاء العالم والركود الذي سيضرّ بالولايات المتحدة والشركات وبالجميع. وهنا يرى البعض بالفعل أن هناك دلائل على أن الولايات المتحدة تنزلق إلى الركود مع إعطاء أسواق السندات تحذيرات.

الشركات الأمريكية هي التي انتقلت إلى الصين

بين عامي 1990 و2017 استثمرت الشركات الأمريكية أكثر من 250 مليار دولار أمريكي في الصين. في البداية لم تسر الاستثمارات الأولية بسلاسة، لكن السلطات الصينية قامت في وقت لاحق بتخفيف الإجراءات المطلوبة من مستثمرين أجانب، وفتحت مناطق اقتصادية خاصة، وفتحت السوق المحلية جزئياً، مما أدى إلى اندفاع الشركات الأمريكية، حيث انتقلت الشركات الأمريكية إلى الصين لتخفيض تكاليف العمالة والتشغيل والتصنيع في ظل أنظمة تنظيمية أقل صرامة، مما زاد من أرباح الشركات بشكل كبير.

كان هناك أيضاً توقع بأن تتمكّن الشركات الأمريكية من دخول السوق المحلية الصينية سريعة النمو، إذ أن الطلب في الولايات المتحدة قد وصل ذروته بالفعل.

نتيجة لذلك، تلاشت وظائف التصنيع في الولايات المتحدة، ولم يتحقق الوعد بتوفير وظائف أفضل، وأصبحت الوظائف والخدمات منخفضة الأجر والمستودعات وتجارة التجزئة هي المتاحة فقط، والتي لم يكن لها على الإطلاق مسارات مهنية، فقد كانت هذه الوظائف للمحظوظين، الذين أصبح الكثير منهم عاطلين عن العمل. وعليه بدأت الطبقة الوسطى بالانكماش، وكذلك القوة الشرائية والقاعدة الضريبية. في النهاية حدث خلل تجاري بين الصين والولايات المتحدة بسبب المنتجات الأمريكية التي أصبحت الآن واردات. من جهة ثانية، حقّقت الشركات أرباحاً أعلى لمساهميها على حساب القوى العاملة التي أصبحت زائدة عن الحاجة، وتمّ إهمال جيل من مهارات التصنيع، إلى جانب المدن والبلدات التي كانت تضم منشآت التصنيع في هذه الشركات، وأصبح الكثير من هذه المصانع مستودعات ومساكن، اشتراها الصينيون، مما أدى إلى تضخم سوق الإسكان.

بعد أكثر من 30 عاماً من هروب رأس المال والطاقة الإنتاجية، أصبحت الصين الآن اقتصاداً صناعياً ولم تعد الولايات المتحدة كذلك، فقد انخفض التصنيع في الولايات المتحدة إلى نحو 11.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 40 في المائة بعد الحرب العالمية الثانية. كان هناك هدوء اقتصادي عام في الولايات المتحدة قبل الانتخابات الأخيرة، مما ساعد على إعطاء ترامب قاعدة الدعم التي احتاجها للفوز بالرئاسة، لكن قد تؤثر الرسوم الجمركية على أجزاء من قاعدة الدعم هذه، حيث يتمّ الشعور بالتكاليف الإضافية للمستهلكين.

الصين والعلامات التجارية

تعلّمت الصين، مثل اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، كيفية تطوير اقتصادها من خلال جمع التكنولوجيا وشراء الشركات والعلامات التجارية المعروفة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك العلامات التجارية الأيقونية مثل جنرال إلكتريك (الأجهزة)، هوفر، إم جي، بيريللي، صن سيكر، روتاري، ثم واصلت الصين إنشاء شركاتها وتقنياتها وعلاماتها التجارية مثل Huawei  وOppo وAlibaba وHaier وXiaomi وGeely وChery.

إن عدد الشركات الصينية في قائمة 2019 Fortune Global 500 يساوي عدد الشركات في الولايات المتحدة. وبات لدى الشركات الصينية الآن علاماتها التجارية العالمية الخاصة التي تتحدّى أبرز الشركات والعلامات التجارية التقليدية. ولا تقتصر العلامة التجارية فقط على الشركات، فقد أطلقت الصين البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، الذي يعمل في مجال البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي نفسه. وتقدّمت أكثر من 100 دولة بطلب للحصول على العضوية في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، على الرغم من مقاطعته من قبل الولايات المتحدة.

ولعلّ أكثر العلامات التجارية طموحاً في الصين والتي تضمّ ما يسميه الرئيس الصيني شي جين بينغ “الحلم الصيني” لإعادة إحياء طريق الحرير القديم عبر سلسلة تجارة وإمداد لوجستية هي مبادرة الحزام والطريق.

يتمثّل الهدف الأساسي من وراء المشروع بإنشاء شبكة عالمية للتجارة والتمويل تعمل على تعزيز العلاقات مع البلدان والمناطق الأخرى. من الناحية النظرية، فإن هذا من شأنه أن يقلّل من هيمنة الولايات المتحدة على العلاقات التجارية وينعكس إيجابياً على الصين.

لقد كانت السياسة الخارجية الآسيوية مع ترامب بعد محور أوباما الآسيوي بمثابة مكافأة للصين، وخاصة مع تخلي ترامب في وقت مبكر من رئاسته عن الشراكة عبر المحيط الهادئ. ومع ذلك، واجهت الصين نكسات مع مشكلات لوجستية في طرح مؤشر “مبادرة الحزام والطريق” على العديد من البلدان في وقت واحد، حيث قدمت العديد من وسائل الإعلام معلومات مغلوطة وسلطت الأضواء على الإسهامات الصينية في تطوير مبادرة الحزام والطريق.

المشكلة ليست الصين، كما أن ترامب لم يسبّب ذلك أيضاً، لأنه ورث المشكلة من الإدارات الرئاسية السابقة، لكن سبب المشكلة هو الشركات التي تخلّت عن الإنتاج في أمريكا، والعمال الذين كانوا أيضاً من عملائها، تمّ إغراؤهم بالوعد بتكاليف أقل، وزيادة الأرباح ودخول السوق الصينية.

عند انتخاب ترامب، دعا الشركات الأمريكية إلى مغادرة الصين معتمداً على صلاحياته التنفيذية لإجبارهم، لكن هذا كان غير مقبول سياسياً، لأن العمل من خلال ديمقراطية دستورية متعدّدة الطبقات مثل الولايات المتحدة يكاد يكون من المستحيل الحصول على دعم قوي وملتزم من الحزبين لإعادة الشركات. وحتى لو عادت الشركات الأمريكية، فإن التكاليف المالية ستكون مرتفعة، إذ سيتعيّن على الشركات إعادة بناء منشآت التصنيع، وإعادة إنشاء شبكات الإمداد، وقد لا يكون هناك موردون محليون، ومن الصعب تجديد بيئات المجتمع لإيواء القوى العاملة لديهم.
سيكون هذا واحداً من أكثر المشاريع طموحاً التي تنخرط فيها الولايات المتحدة، وسيكون من الضروري إعادة البنية التحتية، وسيتعيّن على حكومة الولايات المتحدة بالتأكيد أن تتبنى نظاماً من الحوافز يشبه ما تقدّمه حكومات جنوب شرق آسيا للمستثمرين، وهو أمر لا سابق له في الولايات المتحدة. من المرجح أن يكون هذا مصحوباً بمخطّط ضريبي، بحيث تدفع الشركات المصنّعة في الولايات المتحدة ضريبة أقل من الشركات التي تستورد منتجاتها لتؤثر في تكاليف العمالة المختلفة.

هذا هو الواقع الذي يجب على الولايات المتحدة أن تتعامل معه الآن، إذ يتعيّن عليها أن تتعلم كيف تعمل الصين دبلوماسياً واقتصادياً خارج النموذج العسكري على عكس الحرب الباردة التي كانت تدور حول التفوق العسكري.