“السقاطات”.. الحضارات التي تغفو على صدور الأبواب الدمشقية
القاعة الشامية الباردة شتاء في المُتحف الوطني، على دفء الجمال الذي تبثه النقوش الدمشقية وأشغال والموزاييك وغيرها من الأشغال الفنية الحرفيّة السورية، كانت جدرانها ربما تُصغي للحديث الدقيق والرقيق، الذي قدمه الفنان “أنطون مزاوي”، الذي جاء في معرض ندوة حوارية حملت عنوانا ثقيل الوجد “الرموز البصرية في ابواب الدور الدمشقية”، وذلك على هامش المعرض الذي يقيمه الفنان”مزاوي”، من أعمال فوتوغرافية، تذهب نحو التوثيق البصري الدقيق، لحالة من التراث السوري اللامادي، تلك التي مررنا جانبها طويلا، في حارات دمشق القديمة، مفتونين بالسحر الذي تشيعه تلك الحيطان المتكئة على أكتاف بعضها البعض، كرفاق عمل نال منهم الجهد، دون الانتباه للعديد من التفاصيل، الذي تشكل هذا السحر.
واحدة منها “سقاطات” الأبواب، تلك التي تحمل أشكالا مختلفة، وإليها يرى الناظر، “دقاقة” باب، ربما ومن باب اللعب الفضولي الذي بدأت بالحديث عنه، مفتتحة الندوة المذكورة، مديرة صالة “مشوار” ميادة كلسلي، باستحضار لزمن الطفولة اللاهية، الشغوفة، التي كانت تدق الأبواب بتلك “السقاطات” التي لم تكن تعرف خباياها، مع شعور بالفرح يراودها، لا تدري كنهه حينها، لكنها تدركه كحالة من فرح، عاشتها زمن اللعب بين الحارات، عندما كانت الألفة هي سياج الحماية اللامرئي لزمن اللعب البريء ذاك.
معرض الرموز البصرية في أبواب الدور الدمشقية، لم يكن حالة فنية بحتة، كما حدّث “مزاوي”، فالعين غير عادية حسب قوله، ترى ما لا يراه غيرها في المنظورات التي تبدو عادية، ومنها جاء مشروعه البحثي، الذي تنسحب عليه دلالات الميثولوجيا السورية، في الحضارات التي تعاقبت على دمشق، العاصمة المأهولة دون انقطاع منذ 9000 عام حسب اليونسكو، والتي أخبر الفنان، عن 3000 عام تسبق هذا التاريخ في القدم، حسب دراسات أركيلوجية وبحوث ميثولوجيه، تمت في مناطق قريبة من دمشق القديمة.
واحدة من تلك التفاصيل التي شغفته، وكانت مشروع بحثه منذ عام 2007، هو تلك الرموز المحفورة بماء القلب كما يقال، على تلك “السقاطات”، أول ما يطالعه الإنسان الواقف أمام باب ما، من أبواب تلك البيوت، التي حرص أصحابها وأهلها، وعلى مدى عصور تداولوها كثقافة محفورة في الوجدان، على ان يحيطوا أنفسهم بها، لا بالجدران فقط، بل بعناية “الآلهة”، التي ذهب بحثه للخوض في تفاصيلها، من خلال تلك الرموز المنقوشة، على “دقاقات” الأبواب في دمشق القديمة، والتي اكتشف أنها ليست إلا توثيقا سورياً نادرا، لما حفظه هذا الشعب من إرثه الفني والثقافي والفكري والديني، ليس في دواخله فقط، بل إنه جعله حرزه الحريز، الذي فيه دارت حضارات، وتعاقبت على تهذيبه،مدارس فكرية وفنية، هي في حقيقتها من صلب حياة الدمشقيين اليومية، فتلك “السقاطات” وحسب مزاوي، ليست مجرد أداة لقرع الأبواب، بل إنها تحمل أبعادا فكرية وفلسفية وفنية، جاءت كرموز بصرية، تم الاشتغال عليها بعناية العارف بدلالتها في كل مرحلة زمنية مرت على المكان،والحديث في شجونه، الذي دار عن هذه التجربة، وعن المراحل والآليات البحثية-المرجعية- الصعبة والمرهقة والممتعة، التي خاض فيها تجربته، التي جاءت لمعتها من تجواله المتكرر والطويل في الشوارع الدمشقية،وهو يرى بعين السوري أولا وحس الفنان الذي فيه، ذاك التنوع التراثي الكبير في كل زوايا المكان،بين الحواري وفي الأحجار؛ هذا الغنى البصري، ذهب به نحو العمل على ما يعتبره شغفه الوجداني والوطني، حيث بدأ بالبحث في تلك الرموز، التي حملتها “دقاقات” الأبواب، وقام بتحليلها وبتصويرها وتوثيقها بصريا، من خلال الصور الفوتوغرافية، التي اشتغل عليها بدأب، قبل أن يتوسع في بحثه، مقدما كتابا عنها، طبعه عما دار في قلبه وعقله، بعد أن أسف لجسامة البحث، وضعف التمويل في شأن دقيق كهذا، حتى أن الكتاب الذي أصدره، جاء بما استطاع إليه سبيلا، وإلا لكان الكتاب أوسع أفقا وذهابا نحو ما قدمه، من عمل بحثي مضن، خاض فيه، وفي مذهب خطير الشأن كهذا، فتلك “السقاطات”، التي لم يعد يوجد منها إلا القليل، حتى ان بعضها حط رحاله في أهم المتاحف العالمية، نظرا للقيمة الرمزية التي تحملها، إن كان في دلالات تلك الرموز وما تعنيه في اختلافها، “دائرة-يد-شمس-أهلة-مثلث مقلوب-صليب وغيرها”، من عصر لعصر، من إشارات دالات على الهوية الفكرية والفنية والدينية، لكل مرحلة زمنية، أو حضارة تعاقبت عليها، هي كتب مفتوحة لعين الرائي المدققة، وتجسيد فني، لفكر ضارب في القدم، لم ينقطع، بل إنه حُفظ باللطائف ودقيق ما جاء فيها من معان.
الزميل “سعد القاسم”، الذي أدار الندوة، تحدث بدوره عن أهمية هذا العمل البحثي-الفني- في التأكيد على حياة التنوع والغنى وثقافة الحياة، التي هي من طبيعة أهل هذا البلد، وفي وجدانهم الجمعي، جيلا بعد جيل، وحضارة إثر حضارة.
تمّام علي بركات