متعة الكتابة
محمد راتب الحلاق
الكتابة للمتعة هي التي ينجزها صاحبها إرضاء لذاته بالدرجة الأولى، بعيداً عن رباط العنق الأكاديمي الذي يحد من اندفاعات النفوس المبدعة، التواقة إلى الانعتاق من المقولات الراكدة، ومن الالتزام الأعمى بمقولات المشهورين وتنظيراتهم.
والكتاب الذين يتمتعون بما يكتبون لا يكتفون عادة بما كانوا قد تلقوه في المؤسسات الأكاديمية التي من عادتها أن تروج النظريات التي يضعها، أو يتبناها، المدرسون في تلك المؤسسات، والتي قد لا يجيدون سواها. ومن عادة تلك المؤسسات أن تضع اليد على هذا المجال أو ذاك من مجالات البحث والدراسة والنقد، قبل أن يقوم الكتاب المتحررون من هيمنة النظريات الشائعة بمناوأة المشهورين والمشاغبة على أفكارهم وتفنيدها والرد عليها، أو على الأقل عدم الالتزام بها (على العمياء).
ولا أقصد بالكتاب هؤلاء كل من سولت له نفسه أن يتجرأ على اقتحام عالم الكتابة من دون أن يمتلك الموهبة، ومن دون أن يستعد الاستعداد الكافي واللازم، ثقافياً ومعرفياً وفنياً، لأن هذا إن حدث فسيؤدي إلى التورط بالادعاء بفتح أبواب هي في الأصل مفتوحة، كما هي حالة بعضهم عندما يقرؤون شيئاً جديداً عليهم فيظنون أنه جديد على كل أحد سواهم؟! وإنما أقصد أولئك الكتاب الذين لم يتخرجوا من المؤسسات الأكاديمية المتخصصة في المجال الذي يكتبون فيه، كما أقصد الكتاب الذين استمروا في البحث والتحصيل بعد تخرجهم من تلك المؤسسات، أقول هذا وفي الذهن كثيرون ممن نبغوا وتفوقوا على خريجي تلك المؤسسات، أو بزوا زملاءهم من الخريجين، أهم ما يميز هؤلاء جرأتهم في تناول الأفكار بالنقد، مما أتاح لهم الكشف عن أشياء لم ينتبه لها الآخرون، ولاسيما الذين يستسلمون للمقولات المستقرة. في حين يضع الكتاب الذين أقصدهم كل المقولات، أياً كان قائلها، موضع شك منهجي، ويتساءلون إن كان لها أية شرعية معرفية أو فنية؛ والمفاجأة أن تلك التساؤلات كانت رأس الدبوس القادر على تفجير الفقاعات النقدية والمعرفية الزائفة، التي يحاول بعضهم ترويجها لمجرد صدورها عن بعض الأسماء، ذلك أن هؤلاء الكتاب لا يهتمون بالرجال قدر اهتمامهم بالأفكار، فيخضعونها للمساءلة المستمرة، مما يبقيها نضرة باستمرار. وميزة هؤلاء الكتاب أنهم يعلنون بجرأة أن الإجابات التي قدمها الآخرون إنما كانت إجابات مؤقتة وغير نهائية، إن كانت صالحة في مرحلة معينة، ومكان محدد، ولغة بعينها، فإنها ليست صالحة لكل المراحل والبيئات واللغات، وأن كل ما أنتجه البشر، أيا ما بلغت شهرتهم لابد من وضعه في سياق الصيرورة والتطور التاريخي، لأن الادعاء بوجود إجابات نهائية قد أدى دائماً إلى التقليد الكسول، وإلى الركود الفكري والفني. وميزة هذا النمط من الكتاب الذين أتحدث عنهم أنهم يتهكمون على الطمأنينة الفكرية البلهاء ويشوشون عليها.
وأود أن أشير إلى فكرة زائفة يحاول بعض الدارسين في كليات الآداب والعلوم الإنسانية تمريرها (باسم الموضوعية والعلمية)، حين يشبهون أنفسهم بالباحثين في العلوم الطبيعية والفيزيائية، ويشبهون نتائج أبحاثهم بالقوانين العلمية، بقصد الوصول إلى نتيجة زائفة (أيضاً) قوامها تشبيه من يجرؤ على رد كلامهم بالمشعوذين والخيميائيين الذين يدسون أنوفهم بأمور يكادون لا يعرفون عنها شيئاً؟!.
ويذكرني هؤلاء ببعض مدرسي اللغة، الذين يظن الواحد منهم أن الشعراء والأدباء من بعض رعاياه، فيلزم تلاميذه بآرائه وقراءته للنصوص، بحسب ما كان قد حفظه من الملخصات الجامعية التي حفظها عن ظهر قلب من دون تدبر أو متابعة تحصيل، ولا يقبل سواها.