ترامب بين العزل والسقوط
الدكتور سليم بركات
تشير كل المعطيات إلى أن آمال “ترامب” بالعودة ثانية إلى البيت الأبيض قد تلاشت، ولاسيما بعد أن كشفت المخابرات الأوكرانية مضمون الاتصال الهاتفي السريّ بينه وبين الرئيس الأوكراني”فلوديمير زيلنسكي”، هذا إضافة إلى تفشي سر الشريط المسجل بصوت محمد بن سلمان ولي العهد السعودي والذي يتضمّن تهنئته للفريق السعودي في مقتل “جمال خاشقجي”، هذا الشريط الذي أثبتته مخابر ذبذبات الصوت في كلّ من أمريكا، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا، على أنه صوت “محمد بن سلمان” القاتل الذي تستّر عليه ترامب بسبب الروابط المالية الخاصة التي تجمع بينه وبين “محمد بن سلمان”. وهل نبالغ إذا قلنا إن “ترامب” الذي ملأ العالم بإشكالياته، قد وقع في اليوم الرابع من شهر كانون الأول الجاري في فخ عزله؟، إنه اليوم الذي قطعت فيه الإذاعة الأوكرانية برامجها لتعلن بيان المدّعي العام الأعلى الأوكراني المتضمن أن الرئيس “ترامب” قد طلب من الرئيس الأوكراني ترتيب عملية تزوير وهمية ضد نجل منافسه في الانتخابات الأمريكية القادمة “جو بايدن” مقابل 150 مليون دولار، يحولها الرئيس “ترامب” من حسابه الشخصي بطريقة سرية خارج الولايات المتحدة الأمريكية إلى الرئيس الأوكراني، الأمر الذي يستوجب محاكمة “ترامب” وسجنه على حدّ قول “نانسي بيلوسي” رئيسة الكونغرس الأمريكي.
ما أن أُذيع الخبر الأوكراني الذي تناقلته وسائل إعلام العالم وفي طليعتها الأمريكية منها، حتى اتصلت “بيلوسي” رئيسة الكونغرس الأمريكي برئيسة المخابرات الأمريكية “جينا سيل” لتقول لها وهي تحذّر من مخالفة الدستور الأمريكي: “عليك الحضور أمام لجنة التحقيق في الكونغرس ومعك الملف الذي يكشف عن تورط الرئيس “ترامب” فيما نسب إليه من اتهامات تمسّ سمعة الشعب الأمريكي وكرامته”. وكان جواب رئيسة مكتب المخابرات الأمريكي أنها تنفّذ أمر الرئيس بالامتناع عن تسليم المعلومات إلى الكونغرس. وما أن أنهت السيدة “بيلوسي” هذا الاتصال حتى أعلنت ضرورة الإسراع في عملية عزل ترامب، لأن الأدلة هائلة ومخيفة وكافية لعزله، وتمسّ مصداقية أمريكا تجاه العالم. أعلنت ذلك وهي توضح للشعب الأمريكي قائلة: “لو لم يكن الرئيس “ترامب” مداناً لما طلب من الأجهزة التنفيذية الأمريكية إخفاء الدلائل التي تدينه”، والدليل على ذلك من وجهة نظر “بيلوسي” قراره بعدم التعاون مع لجنة تحقيق الكونغرس المختصة بهذا الشأن”. والملفت في سلوك “ترامب” في هذا الاتجاه هو طلبه من مستشار أمنه القومي جلب تسجيل المكالمة بينه وبين الرئيس الأوكراني، وحفظها في الخزينة السرية للبيت الأبيض.
يترافق مع إجراءات عزل “ترامب” تراجعه عن الكثير من المواقف السابقة السياسية والاقتصادية، منها أن فرض الحصار الاقتصادي على إيران لم يكن من مسؤوليته وإنما من مسؤولية “ماتيس” وزير الدفاع الأمريكي السابق، ومنها عدم قناعته بفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا مبرراً ذلك بقوله: “أنا على أفضل العلاقات مع بوتين، وسأرفع هذه العقوبات عن روسيا قبل نهاية ولايتي”، ومنها العقوبات على الصين وفي مناطق أخرى والتي وصفها بالعقوبات الخاطئة، وأنه لابد من إعادة النظر فيها. أما فيما يخصّ السعودية، فإن عنوان التعامل معها كان في إطار تشجيع الشعب الأمريكي على هذا التعامل الذي برّره بقوله: “إن السعودية تدفع أموالاً كثيرة، وتشتري أسلحة أمريكية بكميات هائلة، ومع كل هذا لست حارساً لهذه المملكة، وإن أمريكا لن تدخل حرباً مع أي دولة لصالح دولة أخرى”. وعلى عكس ما قام به من تصعيد عسكري واقتصادي في مواجهة دول العالم وعلى رأسها كوريا الديمقراطية، فقد وصف نفسه بأنه رجل سلام، ودليله على ذلك أنه قام بمبادرات في هذا الاتجاه لم يقم بها غيره عندما زار آسيا مرتين للاجتماع بالرئيس الكوري، ومن ثم التوصل معه إلى معاهدة بعدم إطلاق الصواريخ البعيدة المدى، وقد نفّذت كوريا الديمقراطية هذه المعاهدة.
الخطير في إجراءات عزل “ترامب” هو ما أعلنه الرئيس الأوكراني، وهو “أن كلّ ما قاله رئيس المحاكم الأوكرانية فيما يخصّ محادثته مع “ترامب” صحيح”، وما أن توارد هذا النبأ على مسمع الشعب الأمريكي حتى بدأت المظاهرات في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية وبكثافة ضد “ترامب”، وحتى لا يحصل أي خلل في منطقة الخليج العربي اتصل محمد بن سلمان ولي العهد السعودي بوزير الدفاع الأمريكي”اسبير” طالباً منه الإبقاء على الاتفاق الاستراتيجي بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وأن السعودية ستلتزم مقابل هذا الإبقاء بدفع 500 مليار دولار إذا ما حضر وزير الدفاع الأمريكي إلى السعودية، ووقع اتفاقاً خطياً بالتزام أمريكا الدفاع عنها. وكان جواب وزير الدفاع الأمريكي بالموافقة بعد أن حصل على موافقة الرئيس “ترامب”، وأضاف أنه سيأتي شخصياً إلى السعودية ممثلاً لترامب بتوقيع هذا الاتفاق وخلال فترة قصيرة.
ترافق مع هذه المعطيات في عزل “ترامب” تفجير المخابرات التركية للمستجد في قضية مقتل جمال خاشقجي بأوامر من محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، حيث نشرت تركيا شريط التنصت الذي احتفظ به الرئيس التركي “أردوغان” ويُظهر كيف تمت عملية خنق “خاشقجي” من أصل سعودي ويحمل الجنسية الأمريكية في القنصلية السعودية بتركيا، ومن ثم إبلاغ محمد بن سلمان الذي أمر بدوره بتقطيع الجثة وحرقها في مدفأة، أعلن ذلك وهو يقول للفريق الذي نفّذ هذه المهمة الإجرامية: “أهنئكم يا صقور السعودية الأبطال”، الأمر الذي يؤكد أن محمد بن سلمان كان وراء الجريمة من ألفها إلى يائها، والغريب في الأمر أن “ترامب” قد علم بكل تفاصيل الجريمة التي تقدّمت بها نقابتا الصحافة الأمريكية والأوروبية بمذكرة إلى الأمم المتحدة للنظر بالأمر بعد الحصول على كل المعلومات وبالوثائق ومن كافة الأطراف الدولية المعنية بالأمر، لكن “ترامب” لم يكترث بالأمر ولم يتحمّس له، بل قام بتمويهه والسكوت عنه بسبب العلاقة اللا أخلاقية التي تتحكم بالعلاقات الأمريكية السعودية.
تدخل إجراءات عزل “ترامب” بعد هذه المعطيات حلقتها الأخيرة في الكونغرس الأمريكي، وبعد أن ثبت للجنة القضائية في الكونغرس أن “ترامب” قد وضع مصالحه الشخصية فوق مصالح الشعب الأمريكي، الأمر الذي دفع الحزب الديمقراطي الأمريكي إلى الإسراع في الإجراءات التي تهدف إلى عزل “ترامب”، وعلى أن تكون قبل نهاية هذا العام، وهذا ما ظهر في طلب رئيسة مجلس النواب الأمريكي الديمقراطية “نانسي بيلوسي” التي لم توفر جهداً باتجاه عزل “ترامب”، إلا أن العقبة الوحيدة أمام هذا العزل هي توزيع المقاعد في مجلس الشيوخ الأمريكي المعني بالأمر، والذي يتألف من مئة عضو، منهم 53 من الجمهوريين، و45 من الديمقراطيين، إضافة إلى عضوين مستقلين يصوتان في العادة مع الجمهوريين، زد على ذلك أن إدانة “ترامب” ستكون من قبل مجلس الشيوخ وتتطلّب 67 عضواً، وهذا يعني أن أمر العزل يحتاج إلى موافقة 20 عضواً جمهورياً إلى جانب الديمقراطيين مجتمعين، وإلى العضوين المستقلين أيضاً. هذا إضافة إلى أن هذا المجلس بإمكانه التصويت على أي قضية محوّلة من مجلس النواب للقبول بها أو لرفضها قبل البدء بإجراءاتها، وفي هذه الحالة قد تسقط التهم الموجهة إلى “ترامب” دون النظر في الأدلة.
بقي أن نقول: يبدو أن الرئيس “ترامب” قد أصبح في قبضة العدالة، وهو اليوم يحاول الإفلات من هذه القبضة، حتى لا تتمّ إجراءات محاكمته وإسقاطه، ولما كانت استطلاعات الرأي العام الأمريكي تشير إلى أن90 بالمئة من الشعب الأمريكي يرفضون التصويت له، فهذا يعني أن سقوطه مؤكد، ولمصلحة المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية القادمة.