دراساتصحيفة البعث

العدوان التركي.. انتهاكات تهدد المواقع الأثرية في سورية

د. معن منيف سليمان

دأب العدوان التركي طيلة سنوات الحرب على انتهاك المواقع الأثرية في شمالي سورية من خلال عمليات النهب والتهريب، ومحاولة محو الحضارة السورية عبر ممارساته المختلفة بين التجريف، أو التفجير، أو تخريب المعالم الأثرية.. إن استمرار السلوك التركي في نهب وتدمير الآثار السورية يشكّل تهديداً جدياً لهذا الإرث الثقافي والحضاري والتاريخي للإنسانية جمعاء، وبالتالي فإن المجتمع الدولي مطالب بوضع حد للاعتداءات التركية الجائرة ضد المواقع الأثرية، لاسيما أن ما أقدمت عليه تركيا من خلال قصفها الممنهج للمواقع الأثرية يندرج ضمن إطار جرائم الحرب، بحسب القانون الدولي الذي ينص على أن أي اعتداء متعمّد على المواقع التراثية يعد جرائم حرب تتحمّل الدولة المرتكبة مسؤوليتها، أو أفراد يعملون معها.

يقوم النظام التركي بنهب الثروات التاريخية والحضارية في شمالي سورية بالبحث والتنقيب غير الشرعي عن الآثار في عدة مواقع بالمنطقة، وتأتي مدينة عفرين بريف حلب بين أهم تلك المناطق، حيث سيطرت القوات التركية والفصائل الإرهابية التابعة لها على بعض المواقع الأثرية هناك، وقامت بتحويلها إلى نقاط عسكرية لكي يسهل التنقيب فيها، وسرقة الكنوز الأثرية القيّمة التي تختزنها، والتي يعود تاريخها إلى آلاف السنين.

بدأت فرق تركية بالتنقيب عن الآثار في تلة جنديرس الريفية بعفرين باستخدام المعدات وأجهزة الحفر بالتعاون مع فرق متخصصة بالتنقيب، وقد أغلقت الطرق القريبة من التلة بالكامل من قبل القوات التركية لإنجاز المهمة، كما بدأت الفرق نفسها عمليات تنقيب جديدة في منطقتي تل علي عيشة، وتل زرافكة التابعتين لريف معبطلي.

ولفت بيان صادر عن مديرية الآثار والمتاحف السورية إلى أن صوراً وصلت من المنطقة أظهرت العثور على تماثيل ومنحوتات نادرة تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، ومنها إلى العصر الروماني نتيجة أعمال الحفر العشوائي في تلال عفرين التي تحوي في غالبها بقايا أثرية مهمة، وأشار البيان إلى أن تلك الاعتداءات تجري في معظم مواقع عفرين الأثرية المسجلة على قائمة التراث الوطني، ومن بينها “تل برج عبدالو”، و”تل عين دارة”، و”تل جنديرس”، و”موقع النبي هوري”، هذه التلال الأثرية التي تتعرّض للنبش والسرقة عبارة عن مدن أثرية فوق بعضها، فارتفاع التل يصل إلى 25 متراً، ويتكوّن من طبقات تعود كل منها إلى عصر أو حقبة حضارية.

ويعد معبد “عين دارة” من أهم التلال الأثرية في محيط عفرين، وهو من الأوابد الفريدة في سورية التي جددت وأعيد بناؤها أكثر من مرة، كما بدأ الاهتمام به حين اكتشف أحد الرعاة تمثالاً لأسد بازلتي، لتبدأ أولى مواسم التنقيب عام 1956، لكن هذا التمثال الأثري اختفى من مكانه على التل الأثري جنوب المعبد الحثي، والاحتلال التركي متورط في سرقته.

ورصدت بالصوت والصورة عمليات السرقة والنهب التركية للمواقع الأثرية بالاشتراك مع ما يعرف بـ الجيش الوطني” في منطقة قلعة النبي هوري، وجرى تصوير عمليات الحفر والسرقة والنهب في المنطقة الواقعة في الريف الشمالي لعفرين على مقربة من الحدود التركية، إضافة إلى توثيق رحلة تهريب الآثار عبر الأراضي التركية، على غرار ما جرى في ادلب ومحيطها في السنوات القليلة الماضية.

لقد تحولت تركيا إلى سوق لتصريف الآثار السورية المسروقة من خلال تهريبها وعرضها في المزادات العلنية في كل دول العالم، والدول الأوروبية بوجه خاص، كما أنها تباع وتشترى على قارعة الطرق، بالرغم من صدور قرارين من مجلس الأمن الدولي لمنع الإتجار بالآثار السورية.

وبشكل مواز لعمليات النهب والتهريب، تقوم قوات الاحتلال التركي ومرتزقتها بتجريف التلال الأثرية الواقعة في سهل عفرين بواسطة الجرافات للتنقيب عن الكنوز واللقى الأثرية الثمينة التي تختزنها هذه التلال، ما يؤدي إلى دمار الطبقات الأثرية، وتشويه صفحات مضيئة من تاريخ وحضارة الشعب السوري، كما تعرّض موقع معبد عين دارة لقصف تركي، ما أدى إلى تدمير الكثير من منحوتاته البازلتية نادرة الوجود التي تعود إلى الحقبة الآرامية نحو ثلاثة آلاف عام، وعشرات المعالم الأثرية الظاهرة كالمعابد، والمدافن، والمعاصر، والجسور التي تشهد على عراقتها خلال العصور المتعاقبة: السلوقي، والروماني، والبيزنطي، والإسلامي، حيث إن بعض هذه المواقع أدرج على لوائح اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 2011، فقد تناثر، على سبيل المثال، درج المسرح الروماني بعد خلعه من مكانه في أثناء المعارك، ويعود بناء ذلك المسرح إلى القرن الثاني قبل الميلاد، كما تعرّضت قلعة النبي هوري، أحد المعالم الأثرية الرومانية في المنطقة، لدمار جراء القصف العنيف.

وأظهرت مشاهد مصوّرة بثتها إحدى الوسائل الإعلامية الموالية للاحتلال التركي والعصابات الإرهابية تدريبات يقوم بها المسلّحون في أحد المواقع الأثرية بريف مدينة عفرين المحتلة، وبُث مقطع مصور يظهر مشاهد لإطلاق المسلحين نيران حية بشكل كثيف على تل عين دارة الأثري، إضافة إلى استخدام رشاشات متوسطة، وقذائف “ار بي جي” في إطلاق حقيقي على حرم الموقع الأثري وداخله، دون أي اكتراث بأهميتها أو مكانتها للتراث والتاريخ العالميين.

وفي مدينة المالكية بريف الحسكة، قامت آليات ثقيلة تابعة للنظام التركي بتجريف مساحات كبيرة من الأراضي في إطار اعتداءات ممنهجة ترمي إلى تغيير مجرى نهر دجلة في قرية عين ديوار شمالي شرقي مدينة الحسكة بنحو 190 كم، ما يؤدي إلى غمر أكثر من ألف دونم من الأراضي الزراعية في قرية عين ديوار، وتهديد عدد من المواقع الأثرية، وفي مقدمتها الجسر الروماني في عين ديوار الذي يعد من أهم الأوابد الأثرية في محافظة الحسكة، وهو عبارة عن قنطرة يقدر ارتفاعها بخمسة عشر متراً، وقد بني بغاية الإحكام من حجارة منحوتة دقيقة مستطيلة مصفوفة في خطوط متوازية منتظمة.

وبسبب استمرار السلوك التركي في سرقة ونهب وتدمير آثار سورية، طالبت المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية المنظمات الدولية والهيئات المهتمة بالثقافة بوضع حد للعدوان الجائر من القوات التركية على المواقع الأثرية في شمالي سورية، وطالبت اليونسكو بالتدخل عاجلاً لوقف هذه الاعتداءات التي تتعارض وتتنافى مع القوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية، ولعل أهمها اتفاقيات لاهاي لعام 1927، وكذلك عام 1954، وبرتوكولها الثاني لعام 1999 المتعلّق بحماية التراث الثقافي في أثناء النزاعات المسلحة التي تشترط على الأطراف المتنازعة “احترام الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، بل وحمايتها، وكذلك عدم القيام بأي عمل عدائي تجاه تلك الممتلكات”، وبناء عليه، يندرج ما أقدمت عليه تركيا من خلال قصفها الممنهج ضمن إطار جرائم الحرب، بحسب القانون الدولي، وبحسب القرار رقم
/2347/ الصادر عن مجلس الأمن الذي ينص على أن أي اعتداء متعمّد على المواقع التراثية يعد جرائم حرب تتحمّل الدولة المرتكبة مسؤوليتها، أو أفراد يعملون معها.

تركيا من الدول الموقّعة على الاتفاقيات الدولية التي من شأنها حماية الإرث الإنساني في أثناء النزاعات والحروب، ومن هذه المعاهدات والمراسيم، بالإضافة إلى المذكورة آنفاً، إعلان اليونسكو عام 2003 بشأن التدمير المتعمّد للتراث الثقافي الموقّع في باريس، والمؤتمر السادس عشر لليونسكو المنعقد في عام 1970، واتفاقية حماية التراث الثقافي والطبيعي لعام 1972، واتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لعام 2001.

وأخيراً، ينبغي على الجهات والمؤسسات المعنية العائدة للمجتمع الدولي، وعلى رأسها اليونسكو، بوصفها الناظمة لهذه القوانين والتشريعات، التدخل مباشرة لكبح جماح النظام التركي، وإدانته كجهة متورطة بجرائم حرب وفق القرار /2347/، وإلا فهي الأخرى تتحمّل مسؤولية ما يجري في شمالي سورية بحق مواقعها التراثية التي تعد ملكاً للإنسانية جمعاء، حيث إن صمتها جرّاء ما يحدث يعد بمثابة ضوء أخضر للنظام التركي، ما يشجعه على ارتكاب المزيد من الجرائم بحق الممتلكات الحضارية والثقافية هناك.