أكباش فداء لتبرئة بن سلمان من دم الخاشقجي
حاول النظام السعودي إسدال الستار على جريمة قتله الصحفي جمال خاشقجي وطيها إلى الأبد بتقديم خمسة أشخاص ككبش فداء لتهدئة الرأي العام العالمي وتقليل حدة التنديدات الدولية مقابل تبرئة مسؤوليه المتورطين بشكل مباشر في هذه الجريمة البشعة وإبعادهم عن مقصلة العدالة.
ولي عهد النظام السعودي محمد بن سلمان أظهر بشكل واضح وصريح استهزاءه بالقوانين الدولية والتنديدات العالمية بعد أن أصدرت النيابة العامة التابعة لنظامه حكماً يقضي بإعدام خمسة أشخاص وسجن ثلاثة آخرين فيما برأت ثلاثة آخرين من مسؤوليه المتورطين في قضية قتل خاشقجي التي شملت 31 شخصاً وذلك في محاولة واضحة لتضليل الرأي العام ودفن هذه القضية بأقل خسائر ممكنة بالنسبة له حتى لو كان ذلك يعني التضحية ببعض التابعين له مقابل تخليص آخرين مقربين له.
قضية قتل خاشقجي على يد فريق اغتيال خاص أرسله النظام السعودي إلى قنصليته في اسطنبول العام الماضي شهدت تقلبات وتحولات كثيرة في أحداثها، فما بدأ بنكران ابن سلمان التام لمسؤوليته عن اختفاء الصحفي السعودي، تبعه اعتراف منقوص بمقتل الأخير لتنكشف بعد ذلك تفاصيل مروعة عن جريمة القتل وفي كل مرة ومع كل تسريب عن حقيقة ما جرى فعلاً داخل القنصلية السعودية كان النظام السعودي يخرج برواية وأكذوبة يحاول من خلالها تضييع الوقت والمماطلة وإبعاد الشبهات عن ابن سلمان وأتباعه الرئيسيين في الجريمة بمن فيهم نائب مدير مخابراته السابق أحمد عسيري ومستشاره الشخصي سعود القحطاني.
وإذا ما عدنا في ذاكرة ما تكشف للعلن حول قضية خاشقجي فإن حادثة اختفائه تبرز أولاً في تشرين الأول عام 2018 حيث قالت سلطات النظام السعودي في البداية إنه خرج من القنصلية حياً ثم عادت واعترفت بمقتله خلال “عراك بالأيدي” في القنصلية ثم قالت في رواية ثالثة إنه قتل “خنقاً” فيما قوبلت تلك الروايات بانتقادات وتشكيك كبيرين من عدد كبير من الدول والمنظمات الدولية التي طالبته بإجابات صريحة وواضحة حول هذه الجريمة والمتورطين فيها وبالكشف عن مصير الجثة ليتبين فيما بعد أن فريق الاغتيال الذي أرسله ابن سلمان قام بتقطيع جسد خاشقجي وإخفاء القطع في أماكن مختلفة.
محاولة ابن سلمان الاستهزاء بالرأي العام العالمي عبر محاكمته الصورية لـ 11 شخصاً وصفهم بأنهم ضالعون في جريمة قتل خاشقجي أثارت تنديدات دولية واسعة حيث وصفت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالات الإعدام خارج القضاء أغنيس كالامار أحكام قضاء النظام السعودي بتبرئة مسؤوليه من جريمة القتل بأنها “مثيرة للسخرية” وقالت في سلسلة تغريدات على تويتر: “عادة ما يكشف الإفلات من العقاب بعد قتل صحفي ما عن القمع السياسي والفساد وإساءة استخدام السلطة والدعاية وحتى التواطؤ الدولي وجميع هذه الأمور حاضرة في قتل السعودية لجمال خاشقجي”.
وأوضحت كالامار أنه “تم الحكم بإعدام منفذي عملية القتل لكن العقول المدبرة لم يمسها التحقيق أو المحاكمة وهذا يتنافى مع العدالة.. وأمر يدعو للسخرية” مبينة أن “المتهمين قالوا مراراً إنهم يطيعون الأوامر وصرح المدعي العام السعودي علناً أن القحطاني طالب باختطاف خاشقجي ومع ذلك لا يزال حراً”.
أحكام الإعدام وتبرئة باقي المتورطين في قتل خاشقجي جاءت بشكل سري بعيداً عن التغطية الإعلامية ومراقبة منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية التي طالبت مراراً بالوقوف على سير المحاكمات في هذه القضية كما جاءت بشكل متناقض تماماً مع تقرير كالامار التي استعرضت فيه أدلة موثقة تدين النظام السعودي وتحمل كبار رموزه مسؤولية ما حدث لخاشقجي.
وفي إطار التنديدات الواسعة لأحكام النظام السعودي بهذا الشأن قال وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب إن “مقتل خاشقجي جريمة وحشية وأسرته تستحق أن ترى العدالة تأخذ مجراها” مشدداً على ضرورة ضمان محاسبة جميع المسؤولين فيما أكد رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي آدم شيف أن حكم الإعدام بحق خمسة مدانين فقط بقتل خاشقجي هي “محاولة من السعودية لإبعاد قيادتها عن الجريمة”.
وأكدت منظمة العفو الدولية أنه “لا يمكن أن تتحقق العدالة لخاشقجي إلا بإجراء تحقيق دولي مستقل ونزيه” فيما وصفت مديرة أبحاث الشرق الأوسط في المنظمة لين معلوف الأحكام الصادرة في القضية بأنها “تستخدم للتبييض ولا تحقق العدالة للراحل وأقاربه” مشيرة إلى أن المحاكمة التي جرت في السعودية غير عادلة.
ورأت منظمة هيومن رايتس ووتش أن المحاكمة التي أجراها النظام السعودي سراً لا تتماشى مع المعايير الدولية وأن سلطات النظام السعودي “عرقلت إجراء مساءلة ذات مغزى” في حين اعتبرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن الأحكام “بمثابة ذر الرماد في عيون الأمريكيين الذين يضغطون منذ أكثر من عام على ابن سلمان لمحاسبة المسؤولين والاعتراف بدور القحطاني في الجريمة” مشيراً إلى أن “السعوديين كانوا يأملون بإسدال الستارة على القضية من خلال الحكم على خمسة من المشاركين بالإعدام لكن ما حدث في الحقيقة هو استمرار لحالة الإنكار التي بدأت مباشرة بعد اختفاء خاشقجي مباشرة”.
ولعل ما يجدر الإشارة إليه هنا دور الإدارة الأمريكية الفعال في التغطية على تورط ابن سلمان في جريمة قتل خاشقجي نظراً لحرص الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على مواصلة ابتزاز النظام السعودي واستمرار علاقاته التجارية الشخصية التي تربطه مع هذا النظام ما دفعه إلى الاكتفاء بتصريحات فضفاضة حول الجريمة دون تبني أي موقف جدي يشير إلى إمكانية معاقبة المتورطين فيها أو وجود تبعات على مستوى العلاقات الثنائية بين واشنطن والرياض.
أحكام النظام السعودي في قضية خاشقجي لا تثير الاستغراب فهو يسخر النظام القضائي كما يريد ويشن حملات قمع واعتقال ضد من يريد كما أن سجله الأسود فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان معروف عالمياً لكن جريمة قتل خاشقجي وتخليص المسؤولين فيها من العقاب والمحاسبة جعلته كالنعامة التي تدفن رأسها في التراب لكن جسدها واضح للجميع.