ثقافةصحيفة البعث

البحث في الهوية

محمد راتب الحلاق

يستنكر بعضهم شرعية البحث في خصوصية الأمة العربية في وقت يميل فيه العالم، بزعمهم، إلى العالمية، في ذات الوقت الذي لا يجدون فيه أدنى حرج في الحديث عن الرغبة قي إحياء بعض المجتعات البائدة واللغات المنقرضة، وتزداد نبرة حديثهم حين يتحدثون عن العروبة باستخفاف من دون بقية الانتماءات، مع أن العولمة التي يرطنون بها لم تستطع، إلى الآن على الأقل، أن تلغي المسافة بين الثقافات، إن لم تكن قد عمقت ما بينها من خلافات. فالعولمة في جانبها الثقافي ليست أكثر من استبداد ثقافة الدول القوية بثقافات الأمم الضعيفة ومحاولة إلغائها. ومن الطبيعي أن تتعمق أزمة البحث عن الخصوصية نتيجة الجذب العاصف الذي تمارسه تلك الدول بما تملكه من أدوات التحكم ووسائل الإعلام والاتصال، عبر رفع شعارات مضللة موجهة للأمم المستهدفة، لكن سرعان ما كان يتم ابتلاع هذه الشعارات عند تعارضها مع المصالح الإمبريالية.
وفي وقت الأزمات، وعند المنعطفات التاريخية الحاسمة، تظهر في الأمم تيارات فكرية هدفها البحث عن الذات، ومراجعة ما حدث، بقصد إعادة تأهيل الأمة لمواجهة المصائر بكفاءة أكبر، فيتم التركيز على المشتركات والقيم التي توحد الأمة وتحدد هويتها، فيبدأ المفكرون في البحث في الهوية وليس البحث عن الهوية، البحث في هوية الأمة بحث فلسفي فكري اجتماعي مركب، أما البحث عن هوية الأمة فبحث أيديولوجي عن هوية ضائعة، وعن عصر ذهبي فقدناه وعلينا استعادته، كما يفعل الأيديولوجيون الأصوليون عادة، مع أن العصر الذهبي هو ما نصنعه نحن وليس ما ورثناه عن الأسلاف.
البحث في الهوية بحث في وحدة الانتماء، وبحث عن الوحدة في المتنوع، وعن كل ما يؤدي إلى التقارب، إنه شيء نصنعه باستمرار، وهو في صيرورة مستمرة نحو الأفضل، وقيد الإنجاز دائماً، لكن دون طفرات، وإنما يتطور دون أن يفقد قسماته المميزة الخاصة به، ضمن منطق معين، ومبادئ وكليات معينة.
أما البحث عن الهوية فلا يمكن أن يرقى إلى مستوى البحث العلمي، لأنه ليس بحثاً بريئاً يهدف إلى تحديد مجمل السمات التي تحدد الهوية، وإنما هو اختيار، وانحياز، وأيديولوجيا، وبرنامج عمل هدفه البحث عن هوية متصورة في ذهن ما، إنه بحث عن فردوس مفقود، ثم يقوم من يؤمن بهذا التصور بمحاولة المطابقة بين ذاته وبين هذه الهوية المختارة، إنه يحاول أن يؤكد ذاته عبر اختياره. فالأمر ببساطة شديدة هو تأكيد للذات وللأيديولجيا أكثر مما هو تحديد للهوية، وهذا بالضبط ما فعلته بعض التيارات الفكرية وبعض الأحزاب السياسية من خلال إجابتها عن سؤال من نحن؟ وما هويتنا؟ حيث أجاب كل تيار بما يتناسب مع اختياره الأيديولوجي، ومع مصالحه، بغض النظر عن مصلحة الأمة ككل.
فالقضية الأساس فيما أزعم هي الولاء لهوية عربية جامعة، تبدأ بالولاء لهوية وطنية يكون لكل فرد من الحقوق ما للآخرين، وعليه من الواجبات ما على الآخرين، بغض النظر عن أية اعتبارات، وطرح مشروع نهضوي عصري ينبع من العقل ويشد الوجدان، دون أن نتوقع، أو نتوهم، أن نجد في ماضينا حلولاً سحرية لمشكلات حاضرنا وتطلعات مستقبلنا، ودون أن ندير ظهورنا لتراثنا، فالتاريخ يعلمنا أنه ما من أمة نهضت بالانخلاع من تراثها، والتاريخ يعلمنا، كذلك، أنه ما من أمة نهضت بالتقوقع ضمن إنجازات تاريخها مهما كانت تلك الإنجازات عظيمة.