ثقافةصحيفة البعث

بين حرية الإبداع وحدود النقد

 

لطالما قيلَ: إنَّ الإبداعَ حريَّةٌ والنقدَ تقييد. فهل تُعدُّ القواعد الفنيِّة التي يقعدها النقاد تقييداً للإبداعِ فعلاً؟ إذا كانت القواعد الفنية تلزم الشاعر إتباعها ليكونَ عملُهُ الفنيُّ جميلاً، فتلكَ دعوةٌ من الناقد إلى الالتزامِ والمحاكاة والإتباع، والمحاكاة محوٌ للإبداعِ؛ إذْ تمَّحي ذات المبدعِ، وتذوبُ فيمن تُقلدُ وتبقى أسيرةً لتلكَ القواعد، فيصبح الفنُّ حينها أقربَ إلى العلمية منه إلى الإبداع! في حين أنَّ الشاعرٍ إذا أخذَ حريَّتَهُ في التعبيرِ، وبنى منهجاً خاصّاً بهِ يُميِّزُهُ عن غيرهِ ذاعَ سيطُهُ، وإذا تقيدَ والتزمَ بمنهجٍ، واحتذى بغيرهِ ضاعَ شعرُه!
جاء في الأثر أنَّ الشاعر المبتدئَ في العصر الجاهلي كان يروي لشاعر كبير خبير بالشعرِ، ويقتدي به، فيتأثر به، ويقولُ الشعرَ مثل أستاذه ويحاكي أسلوبه، حتى يَلمَّ بالفنِّ كلِّهِ ويُمسِكَ زمامهُ، إلا أنَّهُ يحاول التحررَ منهُ فيما بعد، فيستقل عن المدرسة الشعرية التي تخرج فيها، ويبني لهُ شخصيةً بها تُعرف. على نحوِ ما نعرفُ عن رواية الحطيئة وكعب بن زهير عن زهير بن أبي سلمى. وفي خبرٍ وردَ أنَّ خلفَ الأحمر جاءَهُ أبو نواس يستأذنُهُ لنظم الشعر، فلم يأذنْ له حتى يحفظ ألف مقطوعٍ للعرب ما بين أرجوزة وقصيدةٍ ومقطوعة، فحفظها ثمَّ عاد إليه فأمره أن ينساها، ففعلَ ذلك، ثمَّ أذن له أن ينظم الشعر بعدها، وذلك حتى يتعلم قواعد فن الشعر، من وزن وإيقاع وقوافٍ وتصاويرَ فنيّة، وتتشرب نفسه هذه القواعد، ثم ينساها؛ كيلا يكتب كما حفظ عنهم، وتصبح له ذات مستقلة في فن الشعر. ويلمس دارسُ الأدب تأثرَ المتنبي في بواكير شعره بشعر أبي تمام إلى أنْ تحرَّرَ منه. ولا يخفى على دارس الشعر الحديث تأثُّرُ نزار قباني في دواوينه الأولى بشعراء من العصر الأموي والعباسي في بعض قصائده، وفي بعضها بشعراء لبنان الرمزيين وغيرها بشعراء فرنسيين مثل بول إيلوار. وقد كانت قصيدته “مع جريدة” تتشابه إلى حدٍّ بعيدٍ مع قصيدة الشاعر الفرنسي جاك بريفر، والتي هي بعنوان “غذاء الصباح”. وغيرُ واحدٍ من الشعراء المحدثين قد تأثَّروا بشعراءَ سابقين أو معاصرين لهم، كالماغوط، شاعر القصيدة النثرية، التي احتذى الشاعرَ الفرنسي بودلير، إلى أن أصبحَ رائداً من رواد القصيدة النثرية في الوطن العربي، بعد أن وضعَ ذاتيتَهُ في القصيدة النثرية. أما سعيد عقل فقد تخرج في المدرسة الرمزية وتميزَ فيها كما فعل الماغوط حتى غدا هو الآخرُ رائداً للمذهب الرمزي في الوطن العربي.
كلُّ هؤلاءِ الشعراءِ المبدعين قدْ تأثروا بغيرهم، وذاعَ سيطُهم؛ لأنَّهم تحرروا من تلك المدارس التي نهلوا منها فن الشعر، حيث أثبتوا وجودهم في الوسط الفنّيِّ. وأدركوا أنَّ المحاكاة محوٌ لذاتيتهم، وفناؤها في التقليد، فإذا اكتسبَ العملُ الفنيُّ المحاكي نجاحاً فهو نسخةٌ مزيفة عن الأصل ليسَ إلا، ولن يلقى شهرةً كما سبق إليها العملُ الأصلي، إلا إذا أُضيفَ إليهِ ما هو أجمل. فـ(إنيادة) فرجيل لمْ تلقَ اهتماماً كما لقيته (إلياذة) هوميروس؛ لأنَّ فرجيل لم يخرج عن نظام الإلياذة كما فعلَ غوته في مسرحيةِ (فاوست) وأضافَ منها وحذف، حتى أخرجها في أسلوبٍ أجملَ وأليق مما كانت عليها المسرحية فاستحقت هي الشهرة.
وعلى ذلك فحينَ يكتبُ الشاعرُ القصيدةَ يُحاولُ جاهداً أنْ يبحثَ عن التفرد والتميز في الأسلوب ضمن تقاليدَ فنيةٍ وأعرافٍ جماليةٍ سائدة، فلو كتبَ ما هو مخالفٌ للقواعد المألوفة السائدة خلافاً تاماً فسيكون قبيحاً ومرفوضاً لدى الذوق الخاص، بل الذوق العام. وقد قيلَ: كان الشاعرُ، إذا أراد أن يقولَ الشعرَ، يتقلبُ على فراشه كأنَّهُ على جمرٍ ليبحثَ عن الفريد في الفنِّ. وذاك الفرزدق الذي قال: “إنَّ خلعَ ضرسٍ أهونُ عليَّ من قولِ بيتٍ من الشعرِ في بعضِ الأوقات”. وهنا تشتعلُ معاناة الفنان الكبرى ويبدأ الصراعُ بين حريةِ الإبداع وحدود القواعد الفنية وعرفها، إذْ يحاولُ الفنانُ في تفرده خلخلةَ النظام السائد والمألوف في العرف الفني بشيء قليل، ويهفو إلى تغيير جزء بسيطٍ منه، بحيثُ يتقبله الذوق العام؛ لأنِّ الناسَ بطبيعتها لا تتقبلُ التغيير الجذري لأي شيءٍ، وإنما تغييراً تدريجياً. وإذا قرأنا قصيدة التفعيلة وجدناها لم تستطع أن تتخلى عن التفعيلة الموجودة في الشعرِ الموزون والقوافي، إلى أن ظهرت قصيدة النثرِ ولاقت رواجاً بعد تغيير الذوقِ شيئاً فشيئاً.
وبهذا فالنقدُ الأدبي توجيهٌ وتجديد على أكثرِ من مستوى في الفنِّ، حتى كانت نشأةُ المدارس النقدية المختلفة، لاختلاف منهج تناولها للفنِّ، كمنهج النقد الاجتماعي الذي أولى اهتمامه بالتزام الأديب بالقضايا الاجتماعية؛ والنقد النفسي الذي اهتم بالكاتب وحياتهِ ليفهمَ رسالتَه، والنقد البنيوي الذي ركز على لغة النصِّ ووظائفها، والشكلاني الذي اهتم بشكل الأدب وجمالياته، وكذلك نظرية التلقي التي اهتمَّ روادها بالقارئ، وغير تلك من المدارس التي كان همها الأول توجيه الشاعر وإرشاده إلى الفنِّ الجميل، وأنْ تبين للقارئ مواطن الجمال في العملِ الفني بهدفِ التوجيهِ والتجديد والإحياء.

مجد القادري