قمة “الناتو” تكشف الخلافات والتحديات
ريا خوري
لم يخلُ اجتماع قادة الناتو الذي عُقد في لندن لمناسبة مرور سبعين عاماً على تأسيسه من الخلافات الحادة بين الحلفاء، فقد تلبَّدت أجواء العلاقات بين أعضائه الكبار بالغيوم، وساد القلق والترقب وعدم الارتياح، وخاصة عندما بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتقاداته الحادة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتوجّه باللوم إلى رئيس وزراء كندا جاستين ترودو.
وعلى الرغم من التكتّم الشديد على مجريات المؤتمر، إلا أنَّ التسريبات بدأت تتحدث عن تلك الخلافات، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض زاد من فتيل المشكلات، وإحداث حالة من التوتر غير المسبوقة بين بلاده والشركاء الأوروبيين، وذلك من خلال انتقاداته الحادة المستمرة لهم بسبب ضعف مساهماتهم في موازنة الحلف المالية واللوجستية. لكن إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد فعل ذلك بحدّة، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الذي أشعل الأجواء الأطلسية هذه المرة بحديثه عن حالة (الموت السريري) التي يمرّ بها حلف الناتو، ومطالبته بإعادة النظر من جديد في التوجهات الإستراتيجية للحلف، وكذلك آليات اتخاذ القرار فيه، وخاصةً بسبب انسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سورية من دون تنسيق مع الحلفاء بشكل مفاجئ ودون مقدمات، وبسبب إعطائها الضوء الأخضر لتركيا كي تغزو شمال سورية بعملية (نبع السلام)، وهذا يحمل في طياته مخاطر لا تُحسب عقباها من خلال إطلاق موجة جديدة من الإرهابيين نحو أوروبا.
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد اتهم الرئيس الفرنسي ماكرون الولايات المتحدة باتباع سياسة الخشونة وبعيداً عن الدبلوماسية العالمية في التعامل مع روسيا الاتحادية، وممارسة الضغط على الاتحاد الأوروبي للاستمرار في فرض مزيد من العقوبات عليها، وأنَّ البيت الأبيض والكونغرس الأمريكي يتعاملان مع موسكو (بأنانية سياسية وتاريخية)، وهذا يؤدي إلى نتائج غير محمودة على الأمن والسلام في أوروبا. هذه المواقف التي أكَّد عليها الرئيس ماكرون كانت قد نُشرت في صحيفة الإيكونومست العالمية ولم تأخذ حقها في الانتشار، وخاصة حين صرَّح عن الموت السريري أو الموت الدماغي لحلف شمال الأطلسي الناتو، وهذا ما أثار عاصفة كبيرة من الجدل في أوساط الحلف وسارعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل – حليفة الرئيس الفرنسي ماكرون المقربة- إلى القول بأنه (يبالغ)، وسعى سياسيون ووزراء خارجية أوروبيون، وألمان بصفة خاصة، لمحاولة تهدئة الأجواء المتأججة، وإزالة الغيوم التي خيَّمت على الموقف.
الجدير بالذكر أن بروكسل العاصمة البلجيكية والتي فيها مقرّ حلف الناتو قد شهدت اجتماعين مهمّين متزامنين في 20 تشرين الثاني ضمّا عدداً من وزراء خارجية ووزراء دفاع دول الحلف للإعداد للقمة، حيث تقدّم وزير الخارجية الفرنسي لودريان باقتراحات ومطالب لمراجعة أسلوب اتخاذ القرارات في مؤسسات الحلف وإداراته الرئيسية والفرعية. بالمقابل اقترح وزير الخارجية الألماني السيد هايكو ماس تشكيل لجنة خبراء بقيادة أمين عام الحلف يانس سولتنبرغ، لبحث سبل تعزيز وتمكين العملية السياسية بشكل محكم داخل حلف الناتو، وهو ما تمّ الاتفاق عليه.
وحرص رئيس الحلف يانس سولتنبرغ على التقليل من أهمية الخلافات التي اتسمت بالحدية، مشيراً إلى أن أي محاولة لإبعاد أوروبا عن الولايات المتحدة الأمريكية ستؤدي إلى انقسام أوروبا أيضاً. ولذلك فإن الوحدة عبر المحيط الأطلسي ضرورية جداً، وأنَّ أي عمل يهدف إلى تعزيز الدفاع الأوروبي محلّ ترحيب، شريطة ألا يتناقض مع حلف الناتو. ومع اعترافه بوجود خلافات متباينة حول التجارة والمناخ والملف النووي الإيراني، والوضع في شمال سورية، فإنه اعتبر أن هناك ثلاث مشكلات تزعزع استقرار الحلف وإبعاده عن أهدافه الإستراتيجية، هي سلوك كلّ من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والرئيس التركي أردوغان، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالترتيب نفسه.
لقد فجَّر الرئيس الفرنسي ماكرون أزمة حقيقية داخل الناتو من خلال تصريحه بأن الحلف يمرّ بحالة موت سريري، وهو كلام مبالغ فيه. وهذا ما دعا وزراء دفاعهم في اجتماعاتهم الأخيرة إلى اتخاذ جملة قرارات واقتراحات على قياداتهم، منها إنشاء قيادة للحرب الفضائية، باعتبارها مجالاً أمنياً وسرياً مهماً يترافق مع تطوير وتحديث المجالات البرية والبحرية والجوية والمعلوماتية “هاي تك”. كما أعدّ الوزراء تقريراً سرياً لتقديمه إلى قادة الحلف حول سبل مواجهة القوة الصينية المتصاعدة على الصعيد الاقتصادي والعسكري، وهو يضمّ عدداً من أقوى دول العالم اقتصادياً وعسكرياً، في مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية.
إنَّ التحالف الروسي الصيني وموقف الغرب منه، وتحديداً دول الناتو، والذي يدفع الغرب موسكو دفعاً إليه، يطلق عليه مانويل ماكرون التعامل الخشن مع روسيا الاتحادية بالذات بالإصرار على حشد قواته العسكرية على حدودها. لكن بعد توسع حلف الناتو شرقاً، ومحاولة ضم أوكرانيا للحلف، وإقامة ما بات يُعرف بالدرع الصاروخية القريبة من حدودها، والإصرار على الاستمرار في فرض حزمة من العقوبات الأوروبية القاسية عليها، لذا كان موقف ماكرون واضحاً في هذا الشأن، وقد أيّده عدد غير قليل من الخبراء الاستراتيجيين، لأنَّ هذه الإستراتيجية لم تستطع منع روسيا الاتحادية من تطوير قدراتها العسكرية والنووية والفضائية التي وصلت إلى مراحل كبيرة جداً من التطور. من جهة ثانية فإنَّ الخطط الأمريكية المرسومة بنصب صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى في أوروبا لن تهدّد الأمن القومي الروسي وحده، بل تهدّد الأمن الأوروبي برمته أيضاً، لأن الروس سوف يستهدفونها. من هنا يرى الرئيس الفرنسي ماكرون ضرورة تخفيض الحصار على روسيا الاتحادية وتسوية المشكلة الأوكرانية، ورفع العقوبات عن موسكو، والعمل بشكل جديّ لإدماج روسيا الاتحادية في أوروبا على المدى الطويل، وربطها بالمصالح الاقتصادية. وهذا بدوره، حسب رأي ماكرون، يضعف تحالف روسيا مع الصين العملاقة ومن ثم يتمكن الغرب من مواجه الصين دون صعوبات.
هذه الرؤية الإستراتيجية تنطوي على محاذير غير محسوبة، مثل معارضة دول أوروبا الشرقية الصغيرة، فقد كان توجّه فرنسا منذ رئيسها التاريخي شارل ديغول يحلم بأوروبا من المحيط الأطلسي إلى الأورال. أما الولايات المتحدة الأمريكية فإنها مازالت تسير وفق سياستها الخارجية المرسومة منذ نهاية الحرب الباردة برفض ظهور أي دولة عظمى غيرها، وتؤمن بالقطب الواحد وتصرّ منذ عهد الرئيس الراحل جورج بوش الأب ثم الرئيس بيل كلينتون وحتى الرئيس الحالي دونالد ترامب على سياسة الاحتواء المزدوج لهذين البلدين الكبيرين. فالولايات المتحدة ترى من وجهة نظرها أنَّ التقارب الأوروبي- الروسي وإنهاء حالة الاستقطاب يعني خروج أوروبا من قبضتها.