رفيق سبيعي:الإنسان والفنان الذي تقلده الفصول
ربما ليس من باب المصادفة، أن يكون مطر دمشق أول البارحة، حاضرا بالغزارة ذاتها التي كان حاضرا فيها فوق سماء دمشق، وعلى غير العادة، منذ ثلاث سنوات، بالتاريخ ذاته، 5/1/2017، أيضا ليس من باب الإهمال أني تمهلت بالكتابة عنه، لليوم الذي يلي ذكرى رحيله الثالثة، فلم أرد أن يكون أول ما اكتبه في العام الجديد، هو عن هذه المناسبة الوقورة، المائلة للحزن، فرفيق سبيعي-1930-2017- ابن الشام القديمة، كثيف الحضور حتى في غيابه، للدرجة التي لم يشعر بها محبوه وجمهوره بفقده، إننا نتحدث عن عقود وسنوات طوال، بقي فيها ومايزال “أبو صياح”، حاضرا وبقوة في ضمير الجمهور ووجدانه، حافرا بإزميل من النارنج، وجودا دافقا، مستمرا، عصيا على المحي والنسيان.
في حي “البزورية”، وبين تلك الحارات الأليفة، كانت الحيطان والشرفات، سبل الماء العذب، والأزقة التي يفضي كل واحد منها إلى حكاية بارعة، حمامات الغروب، سواء تلك العائدة إلى ملفاها اليومي، فوق سجادة من الأسطح،المطرزة بدوالٍ من الياسمين والعنب، يعكس طينها الأليف وخضرتها المتمايلة، أشعة الشروق وكأنها من بعض لطائفها،أو تلك الشاردة التي لم يصلها النداء، وهي تفرد اجنحتها بانسيابية أخاذة، شاردة بسحر الغروب المنحدر من خلف مئذنة العروس في الجامع الأموي، شاهدة كيف ربّا الفتى روحه كحمامة، تنشر زرقة السماء على حبال الأفق، وإلى حيث تآلف روحها، تعود، وراقبت بهدوء صاف، بدايات تمرد خفي في روح الفتى، ستكشف عنه قادمات الأيام، تمرد ليس بالهين أمره في مجتمع محافظ، بقي لمدة طويلة، ينظر إلى فن التمثيل، على أنه “معيب”، لكن الرجولة بمعناها الحقيقي، تلك التي ظهرت على الناس وهي بكامل عافيتها، سواء بالزي الشهير الذي عُرف به، أو بالأدوار التي لعبها، والشخصيات التي قدمها، ولتصبح تلك الشخصية التي ترتدي الزي الشامي الأصيل، مع شاربين مفتولين، تضحك في يدها “الخيزرانة”، ومن بين أصابعها تكرج حبات سبحة تكاد لا تفارقها، خالدة عند الجمهور الذي أحب هذا الرجل المحب للفن والداعم له، المنسجم مع شخصيته في الحياة والفن،فالأداء الرفيع الذي قدمه في مسيرته الفنية الزاخرة بالكثير من الأدوار التي لعبها، والشخصيات التي لا تنُسى، بعد أن خلع عليها من روحه، مانحا إياها حياة من لحم ودم، ستشكف جوانيته بعفوية ذكية، ليصبح الشكل والمضمون، بأهم ما قدمه من أعمال فنية في الدراما التلفزيونية والسينمائية، سواء المحلية أو المشتركة، واحدا عند الجمهور، الذي بدأ بقبوله بعد رفض، ثم أحبه للدرجة التي جعلته يطلق عليه “فنان الشعب”، إنه منه وفيه، وهو بما قدمه، منذ بداية مسيرته الفنية الطويلة، وحتى الأيام القليلة التي سبقت رحيله، بقي مجسدا صورة الدمشقي “القبضاي”، صاحب الأخلاق العالية، الشهم والصديق الوفي، رب العمل الأب أكثر منه المدير، صاحب المقهى الفخور والجار الطيب، صورة لم تستطع كل الصور المشوهة التي جاءت كتقليد لها في الأعمال الدرامية “البيئة” منها بشكل خاص، أن تُزحها من وجدان الجمهور، وعندما نأتي على ذكر الجمهور وفي حال طرحنا الأسئلة التالية:كم هم في العالم العربي من لا يعرفوه بمختلف أعمارهم؟ كم هم الذين زرع هذا الرجل الذي تُقلده الفصول، الابتسامة والفرح فوق وجوههم وفي قلوبهم ترك فرحا؟ فلن يكون الإحصاء سهلا، مالم يكن مستحيلا، إنه “أبو صياح”، الأشهر من نار فوق راية، إنسان وفنان، دخل البيوت والقلوب، فلم يكن ضيفا بقدر ما كان من أهل البيت، ولم يكن فنانا بقدر ما كان ولم يزل حضورا أكيدا، راسخا، لا ينال من ذاك الحضور والرسوخ، أي غياب.
فنان الشعب الذي لوح للحياة بروح من ورد، ولوحت له بمنديل الخلود الفني، لوح أيضا لها في خريف العمر، ولكن بنفس الروح، ولوحت له بكسرة قلب للمرة الأخيرة، وهو يغادرها جسدا خارجا من عوالم المحسوس، إلى عوالم الخلود،إلى حيث يبقى في مكانته الرفيعة، فما تركه هذا الفنان الدمشقي الأصيل، من إرث فني رفيع، لن يكون من السهل على الزمن مسحه من شريط ذاكرته.
تسعينيات القرن الماضي، وعلى رصيف بناء الفنانين على اتستراد المزة، التفت بالكثير من الالفة، بعض الفتية المارين بالمكان، إلى رجل مهيب يقف تحت شجرة كينا، مرتديا نظاراته الشمسية، نعم إنه هو، قال أحدهم، لم تكن الابتسامة تفارق وجهه وهم يسلمون عليه بفرح وبرجولة عرفوه بها، وفهموا بعضا من معانيها، في ما شاهدوه من نتاجه الفني، فلم يعهدوه إلا بهذه الصورة، التي نفخ فيها من روحه، الجدع، البطل الشعبي شكلا ومضمونا، “الزكرت”، المحب، اللطيف، ومن تحت شاربيه الحقيقيين كما اتضح لهم، كانت كلمات المودة تكرج من صوته المروي من بردى، عندما كان بردى، حياة تجري متدفقة كأخيلة في الصباح المنير، لم تكن كاميرات الجوالات المحمولة موجودة حينها، لكن صورة حيةّ، التقطها كل منهم في وجدانه معه، وهو يبادلهم الحديث الودود والمحب، دون أن يتذمر ولو للحظة من اسئلتهم الكثيرة، تلك التي حملتها محبتهم له، ستبقى محفورة في قلوبهم أبدا، فمن عرفوه على الشاشات، وبكل الصفات النبيلة التي ظهر بها، هو نفسه من صافحهم بمودة نادرة، دون أن يُشعرهم للحظة واحدة من تلك الدقائق الساحرة، أنه في عجلة من أمره، حتى أعلن ذلك، بوق سيارة تنتظر أن تقله إلى العمل، الذي أولم له من قلبه، فأولم له ولكن من الخلود.
تمّام علي بركات