الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

البحث عن المقال

د. نضال الصالح

ساعة، ساعتان، ثلاث، نصف يوم، يومٌ بتمامه، وعبثاً تستغيثُ الحروف في لوحة المفاتيح ليجاور بعضها بعضاً، فتصير كلمات، والكلمات يخاصر بعضُها خصرَ بعض فتصير جُملاً، والجُمل يسند بعضُها ظهرَ بعض فتصير نصّاً / مقالاً ربّما لا ينتظر قراءته أحد، وربّما ينتظره مئات، أو آلاف القرّاء.
أجل، يحدث ذلك. يحدث أنْ يجد كاتبٌ نفسه، مهما كان صاحب تجربة طويلة في كتابة المقال الصحفي، وهو يتقلّب على جمر البحث عن موضوع يعني الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، ويصدر عنها فيما يكتب، ويعنيه من أمرها كما تعنيه نفسه، على الرغم من وجود عشرات الموضوعات حوله، بل الموضوعات التي تتنازع الصدارة فيما بينها ممّا يعني مؤرقات هذه الجماعة وشواغلها اليومية، بل ما يرهق حياتها، ويجعل الأخيرة شبه حياة.
يحدث أن يفتح الكاتب صفحة جديدة، مستنداً جديداً، في جهاز الكومبيوتر لديه، ليكتب، فيجد نفسه محاصراً بغير موضوع، من الموت شبه السريري للكهرباء إلى اللهاث وراء أسطوانة غاز إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية للبقاء على قيد الحياة، إلى تغوّل سعر صرف سيء الذكر، الدولار، إلى طيش إيجارات البيوت، إلى ذكاء ربّة الحُسن والدلال، المقوننة لحجم الاستهلاك من الهواء .. إلى ما لا يكاد ينتهي ممّا هو بعض من تداعيات هذه الحرب على سورية.
أجل، يحدث. ولكن ما لا يحدث أن يبدأ المرء الكتابة في واحد من تلك الموضوعات، أو سواها، فيجد نفسه محاصراً بغيره، لأنّه ما مِن متن وهامش، أو حقيقة وصورة، أو واقع وظلّ، يعني هذا الموضوع أو ذاك، بل كلّها متن وحقيقة وواقع تدفع بالمكتوين بأوارها، ولظاها، وجمرها، وسُعارها وسعيرها، إلى الدعاء، بقلوب تفوح منها رائحة حرائق، على كلّ مَن وما كان سبباً في هذه الحال، من الحصار المفروض على البلاد إلى الذين لمّا يبشموا بعد من لحم العباد إلى الارتجال فيما يعني يوميات الناس، إلى ما ليس أقلّ وطأة وقسوة ووحشية ممّا سبق كلّه وسواه، من تطامن قيم الحقّ والخير والجمال إلى تطاول الزيف والقبح وصخب الصغار إلى.. حتى آخر القائمة من متوالية الجنون ضدّ سورية والسوريين.
ساعة.. يوم، وبعض مساء، وغير اتصال يستعجل إرسال المقال لأنّ العدد صار في المطبعة، ولأنّ عمّال الطباعة يجب أن يغادروا إلى بيوتهم قبل أن يبلغ القلق عليهم خطّه الأحمر، ولأنّ الأحمر يعني لون الدم، ولأنّ الدم يعني الحرب، هذه الحرب التي لمّا يزل حديثها المرجّم يعاند غير حكاية عن البلاد التي لم يُخلق مثلها في البلاد، عن كهرباء كانت تبلغ أبعد قرية، وماء لا تنقطع عن أقصى بيت، وغاز يتمشى بين الحارات مع إيقاع ساحر لا يرقى إلى فتنته إيقاع، ومازوت يبحث بنفسه عن مدفأة هي قابَ نقطتين أو أدنى من الفناء، و.. حكاية عن بلاد اسمها سورية، وستبقى ما بقيت الحياة.