بعد اغتيال سليماني .. هل ينهار الاتفاق النووي مع إيران؟
د.معن منيف سليمان
أسهم اغتيال الفريق “قاسم سليماني” قائد “فيلق القدس” الإيراني، مطلع شهر كانون الثاني، بغارة أمريكية في بغداد في إعادة ملف الخطوة النووية الخامسة إلى طاولة القرار الإيراني. قبل اغتيال سليماني، بالنسبة إلى إيران، ليس كما بعده، وهذا ما أفرز تصعيداً سياسياً تمثّل في إعلان طهران عدم التقيّد بالتزامات الاتفاق النووي، طالما لم تتقيّد به الأطراف المُوقِّعة التي كانت طهران قد منحتها سابقاً للأطراف الأوروبية للوفاء بتعهداتها الاقتصادية، لدعم موقفها في مواجهة العقوبات الأمريكية. ومع ذلك فإن طهران ما زالت تسمح بمراقبة منشآتها النووية بالرغم من تخليها شيئاً فشيئاً عن التزاماتها تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما يترك الباب مفتوحاً ولو على خجل أمام كافة الأطراف لمحاولة إنقاذه.
وافقت طهران، بإبرامها الاتفاق النووي مع الدول الكبرى عام 2015، على أن تخفّض بشكلٍ كبيرٍ أنشطتها النووية لتثبت أن ليس لها أهدافاً عسكرية، في مقابل رفع جزءٍ من العقوبات الاقتصادية الدولية التي تخنق اقتصادها، ولكن منذ أن غادرت إدارة “ترامب” الاتفاق النووي الإيراني في أيار 2018، وأعادت فرض عقوبات على طهران اقتصادياً وحرمتها من المكاسب الاقتصادية التي كانت ترجو تحقيقها بعد الاتفاق، بدأت إيران في التخلّي تدريجياً عن الاتفاق من خلال اتخاذ خطوات صغيرة كل ستين يوماً، فالخطوة الأولى رفعت القيود عن كمية اليورانيوم المخصب والماء الثقيل الذي يجب أن تمتلكه طهران، فيما أزالت الخطوة الثانية القيود عن نسبة التخصيب، وربطتها بحاجة البلاد، في حين فتحت الخطوة الثالثة المجال مجدداً للبحوث النووية. أما الخطوة الرابعة فأعادت مفاعل “فوردو” للعمل من خلال ضخ الغاز في / 1044 / جهاز طرد مركزي فيه، لكن على الرّغم من تشابه العناوين، فإن المضمون يختلف، لأن رفع القيود عن تلك الالتزامات كان بحسب المطلعين رفعاً جزئياً.
ويأتي توقيت اغتيال سليماني فجر يوم الجمعة 3 شهر كانون الثاني قبل أيام من الإعلان الإيراني الخامس المتوقّع بتخفيض الالتزام بموجب الاتفاق النووي، بعد انتهاء مهلة الستين يوماً الرابعة، التي كانت طهران قد منحتها سابقاً للأطراف الأوروبية للوفاء بتعهداتها الاقتصادية، لدعم موقفها في مواجهة العقوبات الأمريكية. هذا التزامن ألقى بظلاله على الخطوة الخامسة، إذ أعلنت الحكومة الإيرانية رفع القيود عن عملياتها النووية بما فيها قدرات التخصيب، ونسبته، وكمية المواد المخصبة، فضلاً عن البحث والتطوير.
وقالت الحكومة الإيرانية في بيان أصدرته: إنها لن تلتزم بأية “قيود تشغيلية” في عمليات تخصيب اليورانيوم، وهي القيود التي تعدّ جزءاً أساسياً من شروط خطة العمل الشاملة المشتركة بين إيران والقوى الكبرى. وأوضح البيان أن إيران “لن تلتزم بعد الآن بالحدّ الأقصى لعدد أجهزة الطرد المركزي أو قدرتها على تخصيب اليورانيوم أو مستوى وكمية التخصيب، وإنتاج اليورانيوم المخصب والتطوير والبحث النووي”. وأشارت إلى أن “البرنامج النووي الإيراني سيتقدم وفقاً لاحتياجات البلاد الفنية”.
ومع مقارنة عناوين الخطوة الخامسة التي قالت الحكومة الإيرانية إنها الأخيرة، مع عناوين الخطوات الأربع الماضية، تُظهر تطوراً كبيراً، فقد تحرّرت طهران من الالتزام المتعلّق بعدد أجهزة الطرد المركزي الذي حدّد الاتفاق سقفه بـ/ 5060 / جهازاً من طراز “أي أر1″، الأمر الذي يُسقط من طريقها آخر قيد عملي في الاتفاق. ما يعني أن الاتفاق النووي الذي فرض قيوداً صارمة على هذا البرنامج، لم يعد له دورٌ في رسم ملامحه ومستقبله. وبالتالي يمكن القول: إن واشنطن، من خلال اغتيال الفريق سليماني، أطلقت هذه المرة رصاصة الرحمة على الاتفاق النووي.
ولكن على الرغم من أن إيران أكّدت على استمرار التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تفرض رقابة صارمة على البرنامج النووي الإيراني، وما دامت إيران أوقفت هذه التعهدات، فتبقى الرقابة في هذا المجال بلا قيمة ومغزى، لكنها تبقى كأداة للمراقبة على البرنامج النووي الإيراني في حال توجهه نحو مسار غير سلمي، وهو ما تؤكّده السلطات الإيرانية أنه “لن يتجاوز مساره السلمي”، وإنما تريد أن تستفيد داخلياً من قدراتها النووية.
إن الاتفاق النووي عملياً لم يعد له فائدة بعد خروج الأمريكيين منه، وعدم وفاء الأوروبيين بتعهداتهم. وبالتالي ليس لدى طهران أية مصلحة في العودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي إلا إذا عاد الجميع، خاصة في ظلّ استمرار فرض العقوبات عليها، لأن أمريكا كانت أول من خرق الاتفاق فيما أعلن الغرب دعمه لها. ثم جاء الموقف الأوروبي مؤخّراً من اغتيال سليماني مخيباً لإيران من خلال إدانتها للشهيد وعدّه أنه ينتمي لكيان إرهابي هو الحرس الثوري. وهكذا رأت إيران أنها ضيّعت أكثر من ثلاث سنوات على وعود فارغة مع الأوروبيين لا طائل منها.
ومع ذلك، فإن إيران أبدت استعدادها للمفاوضات والعودة عن طيب خاطر إلى الالتزام الكامل بالاتفاق إذا رفعت الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. وفي هذا الصدد قال الرئيس “حسن روحاني” أنه “يمكن لطهران التراجع عن تقليص التزاماتها في الاتفاق النووي في حال نفّذ الطرف المقابل التزاماته”. وقال عراقجي، وهو مفاوض كبير في الملف النووي، “لم تُكتب النهاية بعد للاتفاق النووي”، مضيفاً “مستعدون للعودة إلى الالتزام الكامل بالاتفاق في حال إنهاء العقوبات وحصولنا على مزايا اقتصادية منه”.
وهكذا ما لم تغيّر واشنطن سياستها تجاه طهران لن تعود الأخيرة إلى تطبيق الاتفاق النووي، إذ أن إيران انتهجت سياسة الصبر الاستراتيجي إزاء السلوك الأمريكي بحق الاتفاق النووي، وهي ترجو أن يقوم الأوروبيون بإنعاشه من خلال آليات مبتكرة كآلية “إنستكس”. إن فرص تحقيق الشرط الإيراني محكومة بتطورات ما بعد اغتيال سليماني التي كانت فاصلة في الصراع الإيراني – الأمريكي، على ضوء التهديدات المتبادلة بالرد ما يرفع حظوظ المواجهة العسكرية وينهي مرحلة الدبلوماسية في الوقت الحالي.
يبقى الاتفاق النووي في صلب السياسة الأوروبية تجاه إيران، فقبل اغتيال سليماني، كانت فرنسا وبريطانيا وألمانيا قد أشارت بالفعل إلى أنها على وشك إطلاق آلية حلّ النزاعات بموجب الاتفاق النووي، ولكن المواقف الأوروبية من اغتيال سليماني، التي تراها طهران مؤيدةً للتصرف الأمريكي، قد أدّت دوراً متغيراً مستجداً ومؤثراً في دفع إيران إلى إجراء هذه التغييرات. وكانت طهران قد وجهت خلال الأيام الماضية انتقاداً “حادّاً” لهذه المواقف، عادّةً إياها مشاركة أوروبية في الهجوم الأمريكي، وخصوصاً الموقف الألماني الذي رأى أن سليماني قام “بنشاطات مزعزعة” في المنطقة.
وفي السياق نفسه، قال وزير خارجية الاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” إن :”التطبيق الكامل للاتفاق النووي من قبل الجميع يعدّ اليوم أهمّ من أي وقت مضى، من أجل الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي”. فيما صرّح متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” أن إعلان إيران يبعث على القلق، وإن بريطانيا تتحدث بشكل عاجل مع الأطراف بشأن التحركات المقبلة التي ينبغي اتخاذها. من جانبه أكد الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” أن العالم يشعر بقلق لأجل السلام والاستقرار في المنطقة، وأن التطورات الأخيرة يمكن أن تزيد من التوتر والتشنج في المنطقة”. وأشار إلى أن “فرنسا مستعدة للمساعدة لأجل نزع فتيل التوتر في الشرق الأوسط”. وتطرّق “ماكرون” إلى الاتفاق النووي، وشدّد على أن “فرنسا ستواصل جهودها للحفاظ على الاتفاق وترجو من إيران التحرك في هذا الاتجاه”.
وكانت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” والرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” ورئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون”، قد دعوا في بيان مشترك صدر عنهم مؤخراً، إيران، إلى “سحب كل الإجراءات التي لا تتوافق مع الاتفاق النووي”. واليوم، وبعد انهيار ركني الاتفاق النووي، المتمثلَين في التعهدات النووية التي أوقفتها طهران، ورفع العقوبات التي أعادتها واشنطن أقوى من قبل، الكرة باتت في ملعب أوروبا، لتصدر من جهتها، شهادة الوفاة للاتفاق من خلال تفعيل آلية “فض النزاع”، وتصطف بالكامل إلى جانب واشنطن، أو تتجنّب هذه الخطوة حالياً خشية من زيادة التوترات أكثر مما عليه اليوم.
بات على أوروبا، التي قاومت حتى الآن الدعوات للانضمام إلى سياسة واشنطن بالضغط ضدّ طهران، أن تستعدّ لديناميكية أمنية أسوأ في منطقة الشرق الأوسط، وأن تبذل جهوداً دبلوماسية مكثفة لحماية قواتها على الأرض، وهي الآن معرّضة للخطر بشكل أكبر. وفي هذا الوقت بالتحديد، تبدو محاولات التوسّط في استئناف المفاوضات بين واشنطن وطهران بعيدة المنال. وبدلاً من ذلك، يجب أن تركّز أوروبا على دبلوماسية مكوكية عالية المستوى تهدف إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الصفقة النووية وخلق مرحلة تهدئة للحدّ من المزيد من الهجمات داخل العراق.
من جهتها، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في بيان، أنها ستبلّغ الدول الأعضاء بأية تطورات في إيران حسبما يقتضي الأمر. وقالت الوكالة في بيان: إن “مفتشي الوكالة يواصلون القيام بعمليات التحقق والمراقبة في البلاد”.
أما وزارة الخارجية الروسية فقد صرّحت إنها لا ترى تهديداً بانتشار الأسلحة النووية بعد قرار إيران عدم الالتزام بالقيود على تخصيب اليورانيوم، وأضافت: إن روسيا لا تزال ملتزمة تماماً باتفاق إيران النووي وأهدافه. من ناحيته علّق الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على هذه الخطوة قائلاً:” إن إيران لن تمتلك سلاحاً نووياً أبداً”.
وعلى الرغم من خشية أوروبا من أن يكون الإعلان الإيراني الأخير إزاء الاتفاق النووي الخطوة الأولى باتجاه إلغائه تماماً، إلا أنها ما زالت ترى أملاً في الإبقاء على هذا الاتفاق. فقد نشرت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية تقريراً حول فرص إعادة إنعاش الاتفاق النووي، وضعت له عنواناً يقول: “الاتفاق النووي لم يمزق بعد” ولفتت الصحيفة إلى أن “الجمهورية الإسلامية ما زالت تسمح بمراقبة منشآتها النووية بالرغم من تخليها شيئاً فشيئاً عن التزاماتها تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية ما يترك الباب مفتوحاً ولو على استحياء أمام المساعي الديبلوماسية”.
وفي نهاية المطاف يجب القول: إنه على الرغم من إنهاء إيران العمل بالاتفاق النووي عملياً، وإبقائه حبراً على ورق، واسماً فارغاً من مضمونه، دون الإعلان عن انسحابها منه رسمياً، فإنها لم تغلق الباب نهائياً، بل أبقته مفتوحاً لإنقاذ الاتفاق، إذ لا يرى المسؤولون الإيرانيون أن هذه الخطوة بمثابة انسحاب إيران من الاتفاق النووي.