غواية الكم
محمد راتب الحلاق
من الكتاب من يقيس أهميته بعدد الكتب التي أصدرها. ومن الشعراء من يقيس شاعريته بعدد المجموعات (الشعرية) التي تحمل اسمه الكريم؛ وما قلته عن الكتاب والشعراء ينسحب على النقاد والروائيين والقاصين وسواهم.
واتخاذ (الكم) معياراً لتقويم الإبداع لا يستقيم مع الواقع ولا مع العقل السليم؛ فكم من الشعراء الذين لا يعدون شيئاً مذكوراً في ميزان الإبداع الشعري رغم أنهم من الثرثارين والمهذارين الذين لا يكفون عن إصدار المجموعات الشعرية الواحدة تلو الأخرى؟! وكم من الشعراء المقلين الذين ثقلت موازينهم عند الحساب الفني؟! وكم من النقاد الذين أصدروا العديد من الكتب النقدية ثم هم لا في عير النقد ولا في نفيره؟! وبالمقابل، كم من النقاد الذين لم يصدروا إلا كتاباً واحداً في النقد، بل فيهم من لم يصدر كتاباً متخصصاً بالنقد، ولكن آراءهم في الفن والإبداع تعد من المراجع والمصادر؟!.
أرجو أن لا يفهم من كلامي السابق أنني ضد الكم بصورة مطلقة، أو من حيث المبدأ، فقد يكون المبدع، وقد يكون الناقد، من المجتهدين والمتجددين، يستجيب في إنتاجه لنداءات فنية حقيقية، أو يتفاعل مع مشكلات نقدية جديدة وراهنة، الذي أنكره، وأعترض عليه، أن يصر بعض المبدعين، وبعض النقاد، وبعض الكتاب على إصدار كتاب أو أكثر في السنة الواحدة طالما أن الأنظمة تسمح بذلك، أو لأنهم يملكون من القدرة المالية ما يغطي تكاليف النشر، أو لأن الترقية الوظيفية، أو الصفة الاعتبارية في المؤسسات العلمية أو الثقافية التابعين لها، تتطلب منهم إصدار كتاب دون أن يكون في الكتاب الجديد أي تجاوز أو تجديد، وإنما مجرد تكرار واجترار وغزارة في عدد الصفحات، دون مسوغات معرفية أو فنية؛ وهذا التراكم الملفوظي لا يضيف أهمية حقيقية لصاحبه، لأن الكم لم يكن في يوم من الأيام سبباً للتقدير الفني أو العلمي.
والملاحظ أن الشعراء الذين استجابوا لغواية الكم قد وقعوا في مطب النظم، أقول النظم بغض النظر عن النمط الشعري الذي يكتبون فيه، فمفهوم النظم ينطبق على الشعر الحر، بل وعلى ما يسمى بقصيدة النثر انطباقه على الشعر العمودي طالما أن النص الجديد لا يتجاوز فنياً النصوص السابقة.
والنقاد الذين أغواهم الكم لا تزيد كتبهم عن كونها موضوعات إنشائية ساذجة، يغيب عنها المصطلح النقدي المحدد والواضح، رغم لجوء هواة الكم إلى استخدام المصطلحات النقدية الرائجة، لكن (المضحك المبكي) في أمر هؤلاء أنهم يستخدمونها بصورة غير دقيقة، وبصورة ضبابية وعشوائية. وهذا الصنف من (النقاد) أخطر على النقد من الصنف الأول، لأن الذي يكتب نقداً انطباعياً بأساليب إنشائية تعتمد على الهذر والتراكم الملفوظي قد يكون صادقاً مع نفسه، أما الذي يكتب نقداً يتظاهر بالمعرفة والاطلاع فيقوم بعملية تدليس نقدية تشوش ذهن القارئ وتخدعه وتربكه وتغشه دون أن أي عائد معرفي أو فني مفيد.
وصدق (ت.س. أليوت) حين قال: “لو أن الكتاب كتبوا عندما يكون لديهم ما يقولونه فحسب، ولم يكتبوا لمجرد الرغبة في الكتابة، أو لأنهم يشغلون مناصب تتطلب منهم أن يؤلفوا كتباً، ما كانت الكتب النقدية الجديرة بالقراءة لتكون قليلة جداً بالقياس إلى مجموع النتاج النقدي”.