الغاز الروسي وأثره على العلاقات الأوروبية- الأمريكية
ريا خوري
لم تتوقف الإدارة الأمريكية عن عرقلة أي مشروع يقف ضد مصالحها ومشاريعها الاقتصادية الإستراتيجية. كان آخر تلك المواقف إصدار حزمة كبيرة من العقوبات ضد خط غاز نورد ستريم 2 (مشروع السيل الشمالي 2) لنقل الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي والدول الاسكندنافية عبر بحر البلطيق. فقد أقرَّ الكونغرس الأمريكي عقوبات شديدة أثارت استنكاراً أوروبياً، وأيّد يوم الثلاثاء (17 كانون الأول 2019) فرض عقوبات شديدة على أنبوب الغاز الروسي تيار الشمال 2 أو (نورد ستريم 2) الذي ترى الولايات المتحدة الأمريكية أنَّه يعزِّز نفوذ روسيا في أوروبا. وأيَّد مجلس الشيوخ النص بغالبية كبيرة وصلت إلى (86 مقابل ثمانية) بعدما أقرَّه مجلس النواب. ولا يزال يتطلّب توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. من جهتها أكَّدت موسكو يوم (18 كانون الأول 2019) أنَّ العقوبات الأمريكية ضد خط غاز تيار الشمال 2 (نورد ستريم 2) لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر بحر البلطيق لن تستطيع وقف المشروع الذي يكلّف مليارات، حيث قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للصحافيين عندما أقرَّ الكونغرس الأمريكي عقوبات ضدّ المشروع: (نحن ننطلق من مبدأ أن المشروع سيستكمل)، وشدَّدَ بيسكوف على أنّ العقوبات الأمريكية (لا تعجب لا روسيا ولا الدول الأوروبية، لا ألمانيا ولا فرنسا)، مندِّداً في الوقت نفسه بـ(الانتهاك الواضح للقانون الدولي) وبما وصفه بـ (المثال النموذجي للمنافسة غير العادلة).
لقد أحدثت تلك الحزمة الأخيرة من العقوبات الأمريكية على مشروع (السيل الشمالي 2) صدعاً جديداً في علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين. ويشمل المشروع مد خطَّين لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا مباشرةَ عبر قاع بحر البلطيق دون المرور بدول ترانزيت، بسعة إجمالية تصل إلى 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً. فالخط الأول يمتد من فيبورك روسيا إلى كرايسفالد في ألمانيا، وتديره شركة نوردستريم آكَ. ويقوم الخط بتوصيل الغاز الروسي إلى أوروبا الغربية. وكان قد افتتح خط أنابيب تيار الشمال في 8 آب عام 2011. أما الخط الثاني فقد تمّ إنشاؤه بين عامي 2011- 2012، وتمّ افتتاحه بتاريخ 8 تشرين الأول 2012.
الجدير بالذكر أنَّ طول خط التيار الشمالي نحو 1222كم. وطاقته التمريرية 27,5 مليار متر مكعب في السنة، والفرع الثاني يمرّر الكمية نفسها إلى المياه الإقليمية السويدية والفنلندية والدانماركية والروسية والألمانية.
هذا المشروع الضخم يأتي بهدف تلبية احتياجات أوروبا المتزايدة من الطاقة وتحديداً الغاز، من بينها (خط يامال) لألمانيا عبر بيلاروسيا، و(السيل الشمالي 1) لألمانيا عبر بحر البلطيق. وسبق أن استطاعت الولايات المتحدة عرقلة مشروع (السيل الجنوبي) في نهاية عام 2014، وكان من المفترض أن ينقل الغاز الروسي مباشرة إلى دول أوروبا الجنوبية عبر قاع البحر الأسود. وقد فرضت الولايات المتحدة سلسلة من العقوبات بهدف عرقلة مشروع (السيل الشمالي 2) أيضاً، كان آخرها تلك العقوبات التي أقرّها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم 20 تشرين الثاني على شركات وسفن وأفراد عاملة في مدّ القسم البحري من خطي الأنابيب (السيل الشمالي 2) و(السيل التركي)، ومن المقرّر أن يضخ الأخير الغاز من روسيا إلى تركيا، وبعض دول أوروبا عبر قاع البحر الأسود والأراضي التركية، وتبلغ قدرته الإجمالية 31.5 مليار متر مكعب سنوياً.
كما أكَّدت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، مثل أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق، أن أنبوب الغاز سيزيد من ارتهان الأوروبيين للغاز الروسي وتالياً تعزيز نفوذ روسيا. وتعتبر مجموعة (السياس) السويسرية التي تمتلك أكبر سفينة في العالم لمدّ خطوط الأنابيب، والعاملة مع شركة غازبروم الروسية ضمن المشروع، واحدة من الأهداف الرئيسية للعقوبات الأمريكية.
إنَّ هذا المشروع الضخم تبلغ تكلفته نحو 9,5 مليارات يورو أي نحو (10,6 مليارات دولار)، ويقوم بتمويل نصف المبلغ عملاق الغاز الروسي غازبروم، والنصف الآخر شركاؤه الأوروبيون: الانكليزية- الهولندية شل، والألمانيتان فينترشال ويونيبر، والنمساوية أو. إم. في. والفرنسية إينجي. ونتيجة للأضرار الكبيرة التي يمكن أن تتعرّض لها تلك الشركات جراء قرار فرض العقوبات، قام الاتحاد الأوروبي على الفور باستنكار العقوبات الأمريكية، وأبدى معارضته الشديدة من حيث المبدأ فرض عقوبات على شركات أوروبية تمارس أعمالاً قانونية ومشروعة، كما أدانت حكومة ألمانية الاتحادية العقوبات الأمريكية، معتبرة أنها تمثّل تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية، وتؤثر في شركات ألمانية وأوروبية ضخمة، لأنَّ دول الاتحاد الأوروبي تعتبر (السيل الشمالي 2) شريان حياة جديداً لها، وتعوِّل عليه ألمانيا الاتحادية كثيراً في تنفيذ خططها ومشاريعها الرامية لتقليل الاعتماد على الطاقة النووية والفحم. ويملك (كونسورتيوم) وهو اتفاق يبرم بين أطراف عدة محلية أو أجنبية، يتضمن التزامات كل جانب في تنفيذ مشروع معيّن، لمدة محدودة، من أجل تحقيق الربح، من دون أن ينشأ من هذا العقد كيان ذاتي أو شخصية قانونية مستقلة، فبموجب هذا الاتفاق يتمّ تجميع الشركاء في كيان غير مستقل عن مكونيه، الذين يحتفظون بشخصياتهم المستقلة، هذا الكونسورتيوم مكوَّن من خمس شركات طاقة أوروبية 50% من المشروع، 10% لكل منها، في حين تملك شركة «غازبروم» الروسية الـ 50% الأخرى. وقد استجابت شركة السياس Allseas السويسرية الهولندية للعقوبات الأمريكية نتيجة تخوفها من عقوبات أشدّ عليها وعلى اقتصادها، وعلقت أعمالها، وسحبت سفنها ومعداتها المشاركة في المشروع. في حين أكَّد وزير الطاقة الروسي أن روسيا تستطيع إكمال المشروع حتى بغياب الشركات الأوروبية الضخمة، وأن روسيا قادرة وحدها على تنفيذ كل الأعمال المهمّة والضرورية، لذلك فإنها ماضية قدماً في استكمال المشروع الذي تمّ الانتهاء من 60% منه بالفعل على الرغم من الصعوبات الطبيعية والمناخية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد حاولت تبرير العقوبات المفروضة من جانبها باعتبارات معلنة، متذرعة بحماية أوروبا من الهيمنة الروسية، وتحكم روسيا بإمدادات الغاز التي تعني الحياة الاقتصادية بالنسبة لأوروبا. وأما السفير الأمريكي في برلين ريتشارد جرينيل وزميلاه في الدنمارك وبروكسل فقد ناشد، كارلا ساندس وجوردون سوندلاند، شركاء ألمانيا الاتحادية دعم مقترحات قانونية تهدف إلى وضع ضوابط تنظم خط أنابيب (السيل الشمالي 2)، بذريعة أنَّه يمكن أن يزيد من تعرّض دول الاتحاد الأوروبي لعمليات ابتزاز روسية في مجال الطاقة، وأن تبعية الاتحاد الأوروبي للغاز الروسي تنطوي على مخاطر جمَّة لأوروبا والغرب بشكل عام، وأن خط (السيل الشمالي 2) سيسمح بنشر قوة روسيا وتأثيرها عبر بحر البلطيق، وسوف يُمكِّن روسيا من مواصلة تقويض سيادة وقوّة أوكرانيا واستقرارها. كما ستمكن إيراداته والمبالغ الضخمة التي يجنيها روسيا من تمويل تقويض المؤسسات الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة، ويدعم واشنطن في موقفها أوكرانيا وبعض دول شرق أوروبا وخاصة بولندا وجميعها ذرائع واهية.
لقد أدركت دول الاتحاد الأوروبي أنّ العقوبات الأمريكية تأتي ضمن منهج المصالح الأمريكية فقط، وأن الولايات المتحدة تسعى لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الدول الأوروبية المعنية. فقد أبدت الولايات المتحدة استعدادها أكثر من مرة لإمداد دول الاتحاد الأوروبي بالغاز الأمريكي المُسال، ويعتبر هذا الضغط أحد الموضوعات المُثارة في النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي مقابل تعليق الولايات المتحدة تهديداتها بفرض رسوم إضافية على وارداتها من السيارات والآليات الأوروبية، فقد عرض الاتحاد الأوروبي منح الشركات الأمريكية تسهيلات لتصدير إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال إلى دول الاتحاد. وكان ذلك موضع مباحثات مطوَّلة بين الجانبين، منها تلك التي جرت في شهر شباط من العام 2018 بين وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير ومسؤولين أمريكيين كبار في برلين.
في هذا الإطار، أدرك الأوروبيون أن الهدف الأساسي من العقوبات هو إعطاء دفعة قوية للغاز الطبيعي المسال القادم من الولايات المتحدة إلى دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة بعد إنتاج كميات ضخمة من الغاز الصخري في الولايات المتحدة، والذي يعدّ مصدراً مهماً لتصدير الغاز المسال إلى بقية دول العالم، ولاسيما دول الاتحاد الأوروبي والدول الاسكندنافية التي تعدّ أهم الأسواق العالمية للغاز، كما أنها الأقرب والأكثر جدوى اقتصادياً للولايات المتحدة. فقد بدأت الولايات المتحدة بالفعل تصديرَ غازها المسال لدول الاتحاد الأوروبي منذ عام 2016، إلا أن صادرات الغاز الأمريكي ما زالت أقل بكثير مما تطمح إليه الولايات المتحدة، ومن قدرة السوق الأوروبية الواسعة على الاستيعاب، وما زالت دول الاتحاد الأوروبي أميل إلى استيراد الغاز من روسيا باعتباره الأقل سعراً من الغاز الأمريكي، كما أنه الأيسر في النقل والإمداد وحجم الضخ، حيث ينطلق الغاز مباشرة من روسيا إلى أوروبا، خلافاً للغاز الأمريكي المسال الذي ينقل بالسفن التي لا تستطيع تغطية احتياجات السوق الأوروبية.
إن دول الاتحاد الأوروبي تنطلق من الجدوى الاقتصادية لإمدادات الغاز الروسي، خاصة وأنَّ موسكو تدير هذه المشروعات الضخمة بتقنياتها العالية وخبراتها الواسعة في إطار من الشراكة المشتركة وحسن الجوار بينهما.
في سياقٍ متصل يرى الاتحاد الأوروبي أنَّ سياسة الولايات المتحدة تجاه دول الاتحاد تنطوي على السيطرة وتشديد القبضة الأمريكية وإلحاق أوروبا بالولايات المتحدة، ورفض أي نزعة استقلالية أوروبية. لم يقف عدم مراعاة الولايات المتحدة لمصالح الشركاء الأوروبيين الأمريكي عند هذا الحدّ، فقد تعداه إلى فرض الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألمنيوم والسيارات القادمة من دول الاتحاد الأوروبي، ومطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الدول الأوروبية أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) بزيادة النفقات الدفاعية إلى 4% من الناتج المحلي وهذا مرهق جداً للاقتصاد الأوروبي، واضطرارهم إلى الالتزام بزيادتها إلى 2% على الأقل بحلول عام 2024، كما كان انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحدّ من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى (INF) مع جمهورية روسيا الاتحادية، والتي تضع جميع العواصم الأوروبية في مرمى الصواريخ الروسية.
كل هذه القضايا الخلافية وغيرها بين ضفتي الأطلسي أدَّت وتؤدي إلى منحى أكثر استقلالية، وخاصة لدى دول غرب الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها ألمانيا الاتحادية وفرنسا، ووصلت حدّ الموقف الفرنسي القوي والصادم للولايات المتحدة على لسان الرئيس إيمانويل ماكرون عن تشكيل (جيش أوروبي) مستقل، و(هيكل أمني أوروبي جديد) له خصوصيته بالتعاون مع جمهورية روسيا الاتحادية، الأمر الذي انعكس سلباً في استئناف محادثات (2+2) الروسية- الفرنسية عقب انقطاع استمر سبع سنوات، وعقد قمة (رباعية نورماندي) بين قادة روسيا الاتحادية وفرنسا وألمانيا الاتحادية وأوكرانيا، في 9 كانون الأول في باريس، بعد توقف دام أربع سنوات متتالية.