الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الصفقة..

 

حسن حميد

الآن، وفي ظلِّ احتدام المشهد أمام الغطرسة الغربية، ونزوعها الأبدي إلى الهيمنة وإلحاق الأذى بالآخرين، أتذكر قصيدة الجواهري التي قالها في عام 1929 إبان تغول القوة البريطانية في بلادنا، واقتياد الثوار إلى أعواد المشانق، تلك القصيدة التي كانت رائية للجروح والآلام والمآسي التي عاشها أهل فلسطين وهم يقاومون الاحتلال البريطاني البغيض الذي راح يمكّن الصهاينة من الأرض الفلسطينية مستعمرة مستعمرة ومعسكراً معسكراً، القصيدة طويلة، ولكن فحواها في أبيات ثلاثة قالها رداً على دعوات الاستكانة والاستخذاء والاستسلام للمحتل البريطاني، وأن (العين لا تقاوم المخرز)، تقول الأبيات الثلاثة للأمة العربية كلها كي تنقذ مقدساتها في فلسطين:
بالمدفع استشهدي إن كنت ناطقةً
أو رمت أن تُسمعي من يشتكي صمَمَا
سلي الحوادثَ والتاريخَ هل عرفا
حقّاً ورأياً بغــــيـــــر الــــــــقــــوة احـــــتــــرمـــا
لا تطلبي من يد الجبار مرحمةً
ضــعي عـــــلى هــــــامةٍ جـــــبــــــارةٍ قــــــدمـــــا
بلى، لم يرتد الغربي الغازي في كل معاركه التي خاضها في جميع أرجاء المعمورة إلا عندما باتت هامته الجبارة تحت أقدام الشعوب المنتصرة لكرامتها وكبريائها وعزتها، هكذا كان حال بريطانيا في الهند بعد استعمار طويل، وحالها هي كذلك في جنوب أفريقيا، والحال الإسبانية كانت مثلها في أمريكا اللاتينية، والحال الفرنسية كانت كذلك في الجزائر، وقد تفنن الغازي الغربي واجتهد كثيراً في صوغ القوانين والأوامر التي أرادت أن تصير أراضي الشعوب والبلدان الأخرى ملحقة بأراضيه وأملاكه، وأن تصير الشعوب عبيداً تحت أمرته، وها هي تفاعلات الهيمنة الغربية تبدو أهم ما تصدره بلدان الظلموت للشعوب والبلدان التي احتلت وحوصرت وما زالت هدفاً للاحتلال والحصار كي لا ترفع رأسها يوماً، ولكن هيهات، فالشعوب الحرة لا تنام على الظلموت، وكرامة البلدان غالية، وسيادتها هي الشرف، ومع أن ما أنجزته البلدان العربية، وبلدان أخرى، من استقلال وطني نشداناً للحرية والكبرياء، كانت دروساً في الوطنية والتضحية، فإن الغربي الغازي الذي عاش ويعيش وهم القوة لم يستفد من هذه الدروس لأنه ما زال يهدد البلدان والشعوب بالاحتلال والحصار إن هي خالفت إرادته ولم تنقاد إلى ما يريده من غايات لا صبغة لها سوى السواد؛ وليست صفقة القرن التي جهر بها الغرب مؤخراً بلسان الأمريكان إلا وجهاً آخر من الوجوه السود التي عرفت بها القوة الغربية، لأن الصفقة المعلنة من طرف واحد هو الطرف الأمريكي/الصهيوني، تهدف إلى محو الشعب الفلسطيني، وإعطاء أرضه كلها للكيانية الصهيونية، وبذلك فهي الوجه الأقبح لوعد بلفور الإنكليزي لأن الفعل الأمريكي هو اشتقاق شيطاني عن الأفعال الإنكليزية التي سامت بالهوان والذل شعوباً كثيرة من شعوب العالم وأممه، وهذه الصفقة ليست سوى حلقة من حلقات العسف الغربي تجاه فلسطين وأهلها الذين قاتلوا الإنكليز والصهاينة منذ مئة سنة وأزيد، وما زالوا ينادون عبر متوالية جيلية لنضال فذ، وكبرياء باذخة: بلادي.. بلادي! وعلى الرغم من كل الضغوط الغربية الرهيبة والراهبة التي مورست على الشعب الفلسطيني فما زال اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات ولا أحاديث وأحلام لهم سوى الأحاديث والأحلام الفلسطينية، وهذا ما يخيف أمريكا والصهاينة ودول الغرب، وما زال أهل المقاومة الفلسطينية في قواعدهم الفدائية يعلنون، وكما قال الجواهري، أن القوة هي الرادع الوحيد للظلم الغربي والصهيوني، وهي وحدها التي ستفكك حلقات المشروع الغربي الصهيوني وتكسرها، لأن الغربي والصهيوني لن يقتنعا بخطاب فكري أو تاريخي أو أخلاقي ليعودا عن سياسات الدم والهيمنة والتخويف والتوحش، شأنهم في ذلك شأن الضباع التي صارت الدموية طباعها الواسمة لها، وما من شيء تتطلبه المواجهة معها.. سوى القوة!
Hasanhamid55@yahoo.com