ليس بالكلام تَسقُط صفقة القرن يا أردوغان!
“إسرائيل دولة إرهابية، وليس لديها أي اعتبار لدينا”. جملة قالها أردوغان، وهو يعلن رفضه صفقة القرن، ويعد بالاستمرار في الدفاع عن قضية فلسطين. هذا الكلام الناري ليس جديداً، فقد استخدم أردوغان مثله رداً على إعلان ترامب القدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ورداً على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ولنتذكر هنا أنه هدّد يومها بقطع العلاقات مع إسرائيل في حال نفّذت إدارة ترامب قرار النقل، لكنه لم يفعل، وتبخّر كلامه كفقاعة في الهواء…
لفهم علاقة أردوغان بالكيان الصهيوني، لابد من التذكير بزيارته لهذا الكيان عام 2005 عندما كان رئيساً للوزراء، بهدف إعطاء دفع لعلاقة بلاده مع الصهاينة، وقد رحّب به وقتها مجرم الحرب شارون بالقول: “مرحباً بك في القدس عاصمة إسرائيل”، وصافحه أردوغان دون أن يجد في هذا القول ما يستحق الغضب أو حتى الانزعاج!، وقد شكّلت هذه الزيارة نقلة نوعية في تعزيز وتطوير العلاقات التركية الإسرائيلية في مختلف المجالات…
وبعد مرور أربع سنوات، انسحب أردوغان عام 2009 من منتدى دافوس إثر مشادة كلامية حادة مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز على خلفية أحداث غزة، حيث اتهم إسرائيل بتقتيل الفلسطينيين، ومرت هذه المسرحية متقنة الصنع دون أي تأثير يذكر على علاقات بلاده مع الصهاينة، لكنها حققت له شعبية عربية وإسلامية واسعة، وتعززت هذه الشعبية عام 2010 مع حدوث أزمة السفينة “مرمرة” التي ظهر فيما بعد أن هدف أردوغان منها كان أيضاً استثمارها لتعزيز شعبيته داخلياً وفي المحيطين العربي والإسلامي…
كانت تلك الأزمة أشبه بجبل الجليد الذي لا يُرى إلّا جانبه الظاهر، فقد أعمى الشّباك الدبلوماسي والسياسي والإعلامي بين “الخصمين” أبصار الكثيرين عن رؤية حقيقة استمرار علاقاتهما الوثيقة في المجالات الأخرى ولا سيما التجارية. وهكذا تلاشت الأزمة تدريجياً، إلى أن تم عام 2016 توقيع وثيقة تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وكان لافتاً أن تتضمن الوثيقة عبارة “لقد تم هذا الاتفاق في أنقرة والقدس”وليس تل أبيب، ولم يثر هذا وقتها غضب أردوغان الذي يزعم اليوم أنه حامي القدس وفلسطين على خطا سلفه السلطان عبد الحميدالثاني!
وبالرغم من أن العدوان الإرهابي على سورية كشف الوجه الصهيوني لأردوغان الذي كان حجر الأساس في تنفيذ المشروع الأمريكي الصهيوني الرجعي القاضي بإسقاط الدولة الوطنية السورية مركز المقاومة العربية، مما دفع الكثيرين إلى إعادة النظر بحقيقة هذا المدّعي، فقد استمر الرئيس التركي في سياسة الهجوم الكلامي على أمريكا وإسرائيل على خلفية صراعاته المزعومة معهما، وهو الذي لم يكن كما قال عنه السيد الرئيس بشار الأسد إلّا عبداً مأموراً ينفّذ الأوامر الأمريكية…
وبالعودة إلى صفقة القرن، وهذا الصراخ الأردوغاني الذي لم يزعج أمريكا وإسرائيل، ألا يدل ذلك على أن الأخيرتين تعلمان علم اليقين أن ما يقوله العثماني الجديد ليس أكثر من جعجعة بلا طحين، وأنه خطاب مصنوع خصيصاً للاستهلاك المحلي والخارجي العربي والإسلامي لا أكثر…
وأما الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن الذهن أبداً، فهي أن تركيا عضو في حلف الناتو، وأنها ترتبط مع إسرائيل باتفاقيات عسكرية وأمنية وتجارية، مما يعني بكل بساطة أن أردوغان ليس أكثر من ظاهرة صوتية، وأنه يحاول استغلال ضعف الموقف العربي الرسمي في مواجهة إعلان صفقة القرن، بل وانخراط بعض الأنظمة العربية في دعم هذه الصفقة، للظهور بمظهر المدافع عن قضية فلسطين، ومن خلالها عن العرب والمسلمين، متوهماً بأن ذلك كفيل بتتويجه بطلاً إسلامياً قادراً على استعادة ما يعتقد أنه أمجاد السلطنة…
ثمة احتمالان لا ثالث لهما، فإما أن أردوغان نصير حقيقي لقضية فلسطين، وأن علاقته بالناتو وإسرائيل هي من قبيل البراغماتية السياسية فقط، أو أنه أحد أخطر أدوات المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، لأنه يتقن استغلال قضاياها، ولاسيما قضية فلسطين للتلاعب بعواطف الجماهير خدمة لذلك المشروع في النهاية، والاحتمال الثاني هو الصحيح دون شك، فتصريحات أردوغان النارية ضد إسرائيل وأمريكا في العلن، يقابلها في السر تعزيز العلاقات مع الصهاينة وتنفيذ أوامر الإدارة الأمريكية. ويبدو أن الشارع التركي، بل الشارع العربي والإسلامي عموماً قد أصبح يعرف حقيقة هذا الطبل الأجوف…
وأما صفقة القرن سيئة الذكر، فسوف تُسقطها قوى المقاومة، أنظمة وشعوباً، بالفعل وليس بالكلام، مجرد الكلام.
محمد كنايسي