صفقة القرن – البدايات والمآلات..
د. صابر فلحوط
أعتقد أنه ليس هناك أية مفاجآت لقارئ تاريخ الصراع في المنطقة والعالم، منذ قرون.. فإرهاصات “صفقة القرن” بدأت مع محاولات الغرب الاستعماري، وبخاصة بعد تشبيك علاقاته مع أمريكا والصهيونية العالمية، فقد كانت حروب الفرنجة واحتلال القدس وقيام دولة العدوان الفرنجي التي دمّرها البطل صلاح الدين الأيوبي الحلقة الأولى في مسلسل الصفقة المشؤومة..
وقد توالت حلقات المؤامرة الأكبر والأخطر في تاريخ المنطقة، بدءاً بوعد بلفور، وانتهاء بمؤتمر الرياض، بحضور زعماء عشرات الدول تلبية لدعوة (ترامب بلفور الجديد)، حيث أخذ تواقيع المهزومين على الصفقة، وقبض مليارات الدولارات “من البقرة الحلوب” بهدف تمرير المؤامرة، وإنهاء الوجود الفلسطيني في المنطقة، وإغلاقها لصالح الكيان الصهيوني إلى الأبد!!.
وقد تعزّز التحالف الصهيوأمريكي الأوروبي النفطي ما بين 1917 – 2020 بسبب تطورين ساطعين في المنطقة: الأول، تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947 الذي أعلن عقيدته المتمثلة بوحدة الأمة العربية في الدار العربية القومية، واستعادة أمجاد أمة عريقة كانت لها مكانتها الشامخة وامبراطوريتها التي سطعت شمسها ما بين الصين والأندلس.. والثاني تمثّل بقيام ثورة الشعب العربي في مصر بزعامة الخالد جمال عبد الناصر الذي أعلن طموح شعبنا بدولة عربية واحدة تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي..
وقد حاولت أوروبا، مدعومة من أمريكا والصهيونية العالمية، وبعد حربين كونيتين، القضاء على الحركات القومية في المنطقة، والتي تتقاطع أهدافها، وتلتقي عند النقطة المركزية، وهي فلسطين، وأنه لا سبيل لمواجهة هذا المد القومي الذي بدأت إرهاصاته بعد ثورات التحرر الوطني في سورية ومصر ومختلف الأقطار العربية، إلّا بإحداث الاختراق الاستراتيجي الأعظم، وهو الانتقال بوعد بلفور إلى ترسيخ وجود صهيوني في فلسطين يشكّل سدّاً مانعاً لأي شكل من التلاقي بين أبناء الأمة العربية في قارتي أفريقيا وآسيا، إضافة إلى دعمه لإجهاض أي حلم عربي يستهدف منع العرب من قراءة حاضرهم ومستقبلهم على شموع ماضيهم العظيم!!.
وقد رأت أوروبا بإقامة الكيان الصهيوني تجارة رابحة وكسباً كبيراً للمجتمع الأوروبي بالتخلص من “اليهود” الذين ليس لهم في القاموس الأوروبي أي وصف يتجاوز النهب والجشع والفساد والعنصرية!!.
ولهذا كان الدعم الأوروبي للعدو الإسرائيلي فائق الحدود، حيث لا يزال العديد من هذه الدول يضع هذا الدعم بنداً رئيسياً في موازناتها السنوية خوفاً من تهمة اللا سامية التي ابتدعتها إسرائيل، ولا تزال تشحذ المليارات من الدولارات عليها!!.
وقد تساوقت الأهداف الأمريكية مع المواقف الأوروبية بصدد دعم الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية، وأضافت عليها:
1- قيام إسرائيل بلجم أي عمل عربي مشترك صوب الوحدة حتى يصبح ممنوعاً لقاء بدويين في خيمة واحدة في الصحراء العربية.
2- الاستيلاء على ثروات المنطقة على تنوّعها، ومنع تطوير إمكانات أهلها العلمية والتقنية لتبقى عالة على الغرب الاستعماري تمهيداً لتحقيق نظرية “شمعون بيريز” بولادة الشرق الأوسط الجديد، القائم على (العبقرية الصهيونية، واليد الرخيصة العربية)، والمساحات الشاسعة التي تتفجر ثرواتٍ وطاقات!!.
3- تغذية النعرات الطائفية والقطرية والمذهبية عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لمواصلة تشظي الأوضاع العربية.
4- مواصلة دعم الكيان الصهيوني لتحقيق حلمه المعلن بدولة (من النيل إلى الفرات)!!.
وقد كان الرئيس ترامب متفرّداً بين رؤساء أمريكا جميعاً في شدة وضوحه، وضلوعه في جريمة الصفقة.
واليوم وبعدما أُعلن عن المستور، وتوضحت الأمور وحدود المعسكرات في الساحة العربية وعلى المستوى العالمي، والتي كشف خباياها “الربيع العربي”، ودفع المليارات من الدولارات لإزهاق الأرواح العربية عموماً، والسورية بخاصة عبر الحرب الكونية على الوطن، والتي تقترب من عامها العاشر، فما هو العمل؟!.
هل يسمح العقل والمنطق والوعي والعروبة أن نكرر محطات الهزيمة والخيبة والمأساة في تاريخ النضال من أجل فلسطين قضية الأمة المركزية؟!.
وهل يقبل تطور الأحداث، على مستوى الأمة بتصغير القضية والنظر إليها بغير الجدية المتناهية، مستذكرين للعبرة والموعظة يوم كنا نسير في الشوارع، وشعارنا الذي نردده (فلسطين بلادنا واليهود كلابنا)؟!!.
أو يوم كان ردنا على قيام كيان العدو “بسبعة جيوش” يقودها ملك يستعرض الجنود صباحاً، ويسهر الليل مع قادة العدو الصهيوني بُعيد إعلان قيام الكيان الصهيوني 1948؟!!.
وهل يسمح ترف العبث بمصير الأمة أن تُعاد مسرحية “الثغرة” في حرب تشرين واستبدال النصر المنتظر بالهزيمة السياسية المروّعة عبر – كامب ديفيد – وانتزاع مصر، بنيلها وأهرامها، وتراث وشهداء شعبها ووضعها في خانة أخرى؟!.
إن شرفاء الأمة وأحرارها لن يسمحوا “لنواطيرها” باستمرار العبث بالقضية المقدسة، وتركها تتناهشها ذئاب الصهيونية عبر صفقة القرن ومغامرة ترامب الأشد صهيونية وحقداً من نتنياهو وجميع مجرمي العدو…
يقيني أن طلائع النصر الذي حققته سورية العربية على الإرهاب التكفيري الوهابي في الحرب الكونية التي حشدت الإرهابيين والمجرمين والقتلة من أكثر من مئة دولة لابد أن تشكّل حافزاً، وخريطة طريق، تصلب الإرادات، وتشد العزائم، وتوحّد الصفوف، مسنودة بمحور المقاومة، والدعم الرائع من أكبر حليفين على المستوى الدولي “روسيا والصين”، وكل الأحرار والقوى الصاعدة في عالم ما بعد الإرهاب، وسقوط الأحادية القطبية، وتهاوي أحلاف الشر والعدوان.
وإن وحدة القلوب والعقول، وتعاضد البنادق والأهداف الفلسطينية، والتي شهدناها بعد الإعلان عن الصفقة الأخطر في تاريخ الصراع، لابد أن تكون بشيراً وحادياً في التطور الإيجابي لقوى المقاومة الفلسطينية التي جعلت من الحجر والمقلاع كابوساً يجهض الحلم الصهيوني بالاستقرار، بالرغم من الجدران العازلة التي أقامها في وجه أبطال المقاومة والانتفاضات الفلسطينية المتوالية.
إن “الصفقة الأخطر” تحمل في طياتها الفيروس الذي يفتك بها، ويدمّرها لأنها ارتكبت المحرّم والممنوع، وغير المقبول عقلاً ومنطقاً وشرعاً وإنسانياً، ولأنها أنعت المجتمع الدولي، وخردقت مبادئ الأمم المتحدة والمواثيق الدولية، وخرقت جميع القرارات الدولية التي اتخذت خلال عشرات السنين من مسلسل الصراع العربي الصهيوني حول عودة اللاجئين وقيام الدولة الصهيونية وسيادتها وعاصمتها القدس.
وهنا نرجو أن تكون روسيا والصين سفينة الإنقاذ لحماية كرامة المجتمع الدولي، وعدم تحوله إلى غابة وحوش يقودها صاحب الصفقة الأخطر في التاريخ المعاصر والمستقبلي.
فهل يقف المجتمع الدولي، وبخاصة مجلس الأمن، مدافعاً عن كرامته، ويُشرع الفيتو بالإجماع (ناقصاً واحداً) في وجه الصفقة ومسوقها!!.
وهل يمكن أن نجد قطرة دم عربية هاربة من تاريخ التطبيع والاستسلام والانبطاح في قلوب نواطير النفط والدول المطبّعة مع العدو الصهيوني بعد إعلان هذه الصفقة التي جعلت السيل يبلغ الزبى، أم نردد مع الشاعر العروبي:
“لا يُلام الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدو الغنم”
إن أمة عربية عريقة استوت على جمر الأحداث الجسام، وأنجبت الأبطال الخالدين في تاريخها المتوهج بسالة ونبالة وتضحيات، وقد حقق جيشها العقائدي (جيش القضية المركزية للأمة) الانتصارات مسنوداً بشعبها الجبار، وقيادته المفولذة الأعصاب، هي وحدها الضمان في الانتصار على “الصفقة الكارثة”، وإنجاز التحرير لفلسطين والجولان، وكل شبر يشكو القهر في الدار القومية مهما تعالى جدار التضحيات على دروب النضال، ومن يعش يشهد.