آلان روب غرييه…!
حسن حميد
كانت من المصادفات الجميلة في حياتي الأدبية أن التقيت بالكاتب الفرنسي آلان روب غرييه صاحب الشهرة الواسعة في فرنسا من جهة، وفي عالم الرواية من جهة أخرى، ولم تكن أسباب شهرته علوقاً بروايته وما فيها من أفكار وجماليات أدبية، وإنما كانت علوقاً بما قاله حول فن الرواية؛ فقد رأى أن الرواية تدور حول نفسها بتكرار ممل، ولهاث غير مستحب، وأنها معنية بالقول وليس بكيفية القول، وليست مهمة الروائي هي القول بل طريقة القول، وأن مفهوم الزمن أضرَّ بالحضور الروائي، وعلى الرواية إن أرادت التعافي من دورانها الفارغ الممل أن تهتم بالمكان، وأن تتحلل من ارتباطاتها بالزمن، وأن يتخلى الروائي عن وهمه بأنه هو خالق الشخصيات، أي الخروج من فضاء هيمنة السارد على كل شأن من شؤون الرواية، وعلى الروائي أن ينفخ الحياة في المكان لكي يقدم المكان الكائنات التي تعيش فيه، والكائنات التي تبنيه أو تؤثر فيه،.. وكل هذا أسماه غرييه بالرواية الجديدة.
والحق أن هذه الأفكار، والمناداة بأهمية الأشياء وتقدمها على أهمية الكائن البشري، والدعوة إلى الرواية الشيئية، أي الرواية المهمومة بالأشياء، والقول إن الإنسان عنصر تال يعقب الأشياء في الأهمية والحضور والمكانة.. هي التي شدتني للتعرف إلى آلان روب غرييه، وقد كنا معاً في مؤتمر أدبي، وقد رأيتها فرصة ذهبية لكي أحاوره حول أفكاره ورواياته والأفلام السينمائية التي كتب مادتها الدرامية أو التي أخرجها.
ولد آلان روب غرييه في عام 1922، ودرس في معهد للعلوم الزراعية، وعمل موظفاً فترة من حياته، ثم استقل الكتابة والتأليف والأعمال السينمائية، وتوفي عام 2008، وعرف أنه صاحب البيان التأسيسي الأول للرواية الجديدة في فرنسا، وقد شاع نموذجها في عدد من البلدان الأوربية من خلال كتاباته وكتابات جيمس جويس، وصموئيل بيكت وآخرين، مثلما شاع نموذجها في فرنسا من خلال كتابات كلود سيمون، وكانت الصفة الألصق بهذه الروايات هي أنها رواية الحداثة الجديدة، أي الخروج على النسق الكلاسيكي والتخفف من أعباء الأحداث وسطوة الحكاية وسلاسل الزمن التي تقود كل شيء إلى المذبح طوعاً.
والمحير أن زعيم الرواية الجديدة، أعني غرييه، لم ينل الحظوة والمكانة اللتين شيدهما مريدوه، وحين سألته عن ذلك لأبدد حيرتي، قال لي، المافيات العالمية حاولت منذ بداياتي الروائية الأولى، وبعد أن عرفت قدرتي على التأثير في الآخرين، استقطابي لكنها أخفقت، ثم حاولت وأخفقت، ثم شاءت أن تضعني في غرفة وتغلق الباب عليَّ حين كان موقفي واضحاً ضد الدولة اليهودية في فلسطين، وقولي إن لفلسطين أهلها ولن يسكتوا على سرقتها.
قلت له: ألهذا أُبعدت عن جائزة نوبل؟ قال: نعم، ولكني سعيد لأن جائزة نوبل منحت لتياري الأدبي الذي دعوت إليه عندما نالها صموئيل بيكت وكلود سيمون.
وللتوكيد أقول إن غرييه الذي عاش عمراً طويلاً (86) سنة لم ينل حظه من الشهرة المديدة لأنه عانى من العزلة وعدم الحضور، وأن جهات ومنابر كثيرة تحيّدية أو قل تخطته إلى غيره، فلم ينل طوال حياته الصاخبة أدبياً وفنياً سوى جائزة أو جائزتين.
ومما لابد من ذكره أن روايات غرييه لاقت قبولاً كبيراً في أثناء صدوره، ولم تلاق الصدى المطلوب بعد انطفاء أوهاج الدعوة إلى الرواية الحديثة، لأن الثغرات داخل هذه الروايات، والروايات التي حاكتها، كانت كثيرة جداً، حتى إن بعض الروايات باتات أشبه بالألغاز أو المتاهات، وباتت قراءاتها أشبه بحالات التعذيب، أما ما تهدف إليه فكان أشبه بالسراب.
بقي لي أن أقول: إن روايات غرييه التي لم تصادف قبولاً لدينا، لم تحجب قبولنا لأفكاره المنادية بالعدالة واحترام حقوق الشعوب التي وقع عليها ظلموت القوة.
Hasanhamid55@yahoo.com