ثقافةصحيفة البعث

ما يكتب اليوم من شعر.. مواكبة للزمن أم قطيعة مع الماضي

 

 

لو سألنا عدداً من شعراء اليوم وخاصة الجيل الشاب لمن تقرؤون أو بمن تأثرتم ستكون الإجابة غالباً أسماء كبيرة من الشعر العربي القديم وربما الحديث لكن لو توقفنا ملياً عند ما يكتب اليوم ويصدر عبر المجموعات الشعرية الكثيرة ووسائل التواصل الاجتماعي نرى أن غالبيته إن لم نقل جميعه يختلف عن القديم من حيث شكل القصيدة وبنائها. ترى ماسبب هذه القطيعة إن صحت تسميتها بذلك هل هي الرغبة في الهروب من القصيدة بشكلها الكلاسيكي القديم والتحرر من الوزن والقافية كما يرى البعض؟ أم أن القصيدة بشكلها القديم لم تعد قادرة على التعبير عن العصر الحالي بتعقيداته وخصوصيته أم أن هناك أسباباً أخرى؟.

لا تخضع للزمن
طرحنا هذا السؤال على عدد من الشعراء لنرصد بعض وجهات النظر والبداية كانت مع الشاعر حسن الراعي الذي يرى أن هذا الموضوع شائك لكن إن شئنا توخي الدقة علينا أولاً أن نميز بين الشعر واللاشعر، فالكثير مما ينشر سواء في دور النشر أو وسائل التواصل بعيد عن الشعر ويقع في فخ الاستسهال والمجانية، ولا أقصد هنا شكلاً معيناً من أشكال الشعر بل أقصدها جميعاً، فأنا لست ضد أي شكل للشعر شرط أن يكون محمولاً على الشاعرية والشعرية، ففي جميع الأشكال الشعرية هناك مبدعون ترفع لهم القبعة، وبالمقابل هناك من يستسهل الشعر فيفرز لنا نصوصاً مشوهة لا تنتمي للشعر، وأنا أزعم أنني متابع جيد محلياً وعربياً وحتى عالمياً وما أراه من وجهة نظري أنه لا يوجد قطيعة مع التراث الشعري بل على العكس جل الشعراء حتى المجيدين والمجددين منهم لم ينج من التقليدية على اختلاف مستوياتها ومستويات التمرد عليها، وندرة منهم تستحضر التراث وتوظفه في خدمة النص بجدية وفرادة، أما من يعاني من القطيعة مع التراث الشعري فهو ما زال بعيداً عن عالم الشعر حيث لا يمكن الدخول إلى أي ثقافة إلا من باب تراثها، وبالعودة إلى أشكال الشعر لا بد من التوضيح أن هذه الأشكال لا تخضع كما يؤكد الراعي لعامل الزمن، فلا يصح القول عن شكل ما أنه قديم وعن آخر أنه حديث، فقصيدة النثر مثلا هي شكل قديم لمن يقوم الآن بتقليدها والنص الخليلي هو شكل حديث ومبتكر لمن يقوم الآن بكتابة نص بديع لا يخلو من الجدة على بحر من بحوره، والعكس صحيح إذاً الشكل الشعري هو رداء فحسب، والشاعر هو من يقرر إن كانت من ترتدي هذا الرداء أصيلة الإبداع أو مستهلكة.

حققت المعادلة
أما الشاعرة لينا المفلح فتقول: على الرغم مما ألحظه مؤخراً من هروب بعض الشعراء إن لم يكن معظمهم من القصيدة من حيث الشكل نحو التحرر من الوزن والقافية، والذي ربما كان له عند بعضهم مسوغاته ومبرراته في أن القصيدة بشكلها الكلاسيكي لاتواكب العصر الحالي ولابدّ من السعي نحو الحداثة في الشكل مع ذلك استطاع بعض الشعراء تحقيق نقلة نوعية في ذلك فيما أخفق كثيرون حين ذهبوا إلى الاستسهال هروباً من قيد الوزن والقافية لعجزهم عن كتابة القصيدة الخليلية ليس إلا، فخرجت إلينا مستنسخات شبيهة بترجمات سيئة لقصائد كتبت بلغة أخرى غير العربية، وهنا أوّدُ أن أنوّه إلى ضرورة مواكبة الشعر للعصر وإلى أن الحداثة ليست بالضرورة التحرر من الوزن والقافية، وقد أثبت ذلك عدة شعراء التزموا بحور الشعر وذهبوا إلى الحداثة في النص الشعري من حيث المضمون والصور والتراكيب وهناك بعض الشعراء تحرروا بشكل جزئي من نص التفعيلة الذي يعد مرتبطا بالبحور من حيث وجود الوزن في تكرار تفعيلة واحدة ومن حيث القافية الواحدة أو المتنوعة، وبالنسبة لي أجد أن القصيدة بشكلها الكلاسيكي أثبتت أنها تستطيع مواكبة العصر الحالي، بل واستطاعت تحقيق المعادلة الصعبة وهي ربط الأصالة مع الحداثة.

الهروب من الوزن والقافية
وترى الشاعرة أمل محسن المناور أن سبب الهروب من القصيدة الكلاسيكية هو الوزن والقافية اللذان لايجيدهما الأغلبية من المتطفلين على الشعر فالقصيدة العمودية استطاعت التعبير عن كل شيء عبر الزمن ولم يكن الوزن والقافية عائقاً، وبإمكاننا الاستشهاد على أي موضوع نريد التحدث عنه ببيت شعري من القصائد العمودية الموجودة في أدبنا وتراثنا وهذا دليل على أنها قادرة على التعبير وبجدارة. وتعتبر المناور أن الهروب من صعوبة الوزن والقافية هو من دفع من يسمون أنفسهم شعراء لاختراع مايسمى بقصيدة النثر فأصبح (مع الأسف الشديد) لقب شاعر مباح لمن لا يستحقونه.

قيود القصيدة التقليدية
ويقول الناقد عماد الفياض: دائماً أطرح على الشعراء الشبان سؤال لمن تقرؤون؟ لأن الإجابة على هذا السؤال هي العتبة الأولى لتكوين فكرة عامة عن طريقة الكتابة التي يكتبون فيها القصيدة، لكن للأسف تكون غالبية الأجوبة بأن قراءاتهم قليلة في مجال الشعر حتى ولا يعرفون أسماء الشعراء المؤسسين لقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ويعترفون بأن قراءاتهم محصورة في الفضاء الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن مع ذلك لا ينفي الفياض وجود عدد قليل منهم يقرؤون النماذج المهمة من الشعر القديم والحديث ولديهم معرفة واسعة. وعن ميل أغلب الشعراء في الوقت الحالي إلى قصيدة النثر يعتقد الفياض أن هذه القصيدة تعطي حرية أوسع للتعبير لأنها تلقي قيود القصيدة التقليدية جانباً وتضخ دماء جديدة في شرايين القصيدة، كما أن قصيدة النثر أصبحت مفتوحة على فضاءات إبداعية أخرى وذلك في أخذها من القصة والرواية والمسرح والفن التشكيلي وربما نزار قباني من أوائل الشعراء الذين تنبهوا إلى تغير العصر والذائقة وبالتالي تغير وسائل التعبير لذلك قال: من المستحيل التعبير عن روح العصر في القرن العشرين بكتابة قصيدة مثل: يا دار “جانين” بالعلياء فالسند في محاكاة لمعلقة النابغة لذلك يمكن القول إن ابتعاد الشعراء الآن عن القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة يرجع إلى الحاجة إلى التحرر من الوزن والقافية وأيضا بسبب تغير الذائقة، لكن باعتقادي والكلام للناقد الفياض أن القصيدة تكتب بمختلف أشكالها سواء كلاسيكية أو تفعيلة أو نثر، طبعا بلا ادعاءات كاذبة ولا تصمد في ميزان النقد، والمهم هو كتابة قصيدة جديدة ومختلفة وربما هذا ما عبر عنه أدونيس موجها حديثه للشاعر “عش ألقا ابتكر قصيدة وامض زد سعة الأرض” الملاحظة المهمة هنا أن أدونيس أمر الشاعر بابتكار قصيدة ولم يقل تأليف أو صنع قصيدة لأن الابتكار يعني الجدة والحداثة كما أنه طالب الشاعر بعد أن يبتكر قصيدته آمراً إياه بكلمة واحدة (امض) أي أن لا يلتفت لما يقال.
جلال نديم صالح