ثقافةصحيفة البعث

الواقعية السحرية عند عبد الحميد العازف المنفرد سينمائيا

 

مع انطلاقة العروض الجماهيرية لفيلم عبد اللطيف عبد الحميد الأحدث “عزف منفرد” التي شملت عددا من المحافظات السورية ومنها حمص، حيث تابعه جمهور السينما في أربعة عروض متتالية في سينما مديرية الثقافة، نجد من المهم التوقف ليس عند هذا الفيلم وحسب وإنما التطرق إلى ظاهرة عبد الحميد الاستثنائية في السينما السورية، سواء من حيث الكم أو النوع، هذه الظاهرة التي استطاع ترسيخها وفرضها كمدرسة سينمائية بفضل فرادته المتميزة وإبداعه الخلَّاق ككاتب ومخرج لكل أفلامه، هذه الفرادة التي بدأت تأخذ ملمحها الأول مع فيلم “ليالي ابن آوى” ثم “رسائل شفهية” واستكمالها نضجا واحترافية مع “نسيم الروح، وما يطلبه المستمعون، وخارج التغطية، وقمران وزيتونة، إلى أن نصل إلى أحدثها “طريق النحل والعاشق” إلى آخر هذه السلسلة “عزف منفرد”.
السمة الأساسية في هذه التجربة هي الواقعية السحرية التي واظب عليها عبد الحميد وأضاف إليها من روحه وإحساسه نوستالجيا بيئية نقلنا فيها إلى يوميات الإنسان الريفي البسيط بلغة بصرية تجنح أحيانا نحو السريالية في تشكيلها لبنية الفيلم السينمائي التي يبحث فيها عن حالة الدهشة في الموضوع والشكل والأسلوب، تلك الحالة التي تمنح المشاهد متعة تتبع الأحداث والتماهي معها، إلى جانب سعيه الدؤوب وحرصه على الخروج من أسر التأطير الريفي الذي كاد يحشر نفسه فيه بعد عدد من الأفلام ليثبت مقدرته الفائقة على التنويع والتنقل بين الريف والمدينة والربط بينهما أحيانا، لكنه بقي أسير تلك الواقعية الماركيزية إن صحت التسمية، الذي أسس لواقعية سحرية ليس في روايات أمريكا اللاتينية فقط، بل أيضا في العديد من الأفلام التي أعد السيناريوهات لها، لذلك نجد عبد الحميد، المشبع بها، لا يستنسخ الواقع بقدر ما يحرص على اقتناص السر النابض فيه، واستخراج مكمن الجمال من وسط الركام المادي والمعنوي الذي نغرق فيه، فالسينما عنده أداة اكتشاف تضعنا في مواجهة سر الحياة وجمالها، لذلك دائما نجد عنده حدا فاصلا بين الدمعة والبسمة لابد وأن نقف عنده، ففي فيلمه الحالي “عزف منفرد” تتجلى تلك السحرية المطعمة بشيء من السريالية في موقف “طلال” عازف الكونترباص من العم إبراهيم الذي التقاه مصادفة، ودون سابق معرفة في أحد الحمامات العامة وهو يعاني من ألم حاد بسبب تضخم غدة البروستات لديه، فيصر على نقله إلى المستشفى وإجراء عملية جراحية له وبيع طوق زوجته لدفع تكاليف العملية، ولا يكتفي بذلك بل يحضره إلى منزله للعناية به طوال فترة النقاهة بعد الجراحة لأنه رجل وحيد وليس له معيل، هذا الموقف أراد من خلاله المخرج أن يصل بنا إلى النور المنبثق من نهاية نفق هذه الحرب الطاحنة التي أرخت بظلالها على البشر والحجر وشتت أعضاء فرقة موسيقية ودفعتهم للعمل بمهن لا تليق بمواهبهم وتطلعاتهم ومنهم طلال الذي اضطر للعزف في مطعم شعبي ألحانا راقصة على آلة الكونترباص الشهيرة في الاوركسترا السيمفونية، ودفعت زوجته “سوسن” المغنية للعمل في محل بيع ألبسة، وأجبرت “رنا” عازفة الكمان للعمل سائقة تكسي. فقد جسد طلال بمواقفه الإنسانية الاستثنائية والمستغربة دور عازف منفرد على إيقاع الحياة الصاخب أراد المخرج تعميمه كنواة تؤسس لمستقبل إنساني جميل.
وانطلاقا من هذه الشخصية المحورية في “عزف منفرد “يمكننا أن نعود إلى شخصية سامر في فيلم “نسيم الروح” وعلاقته السحرية بجيرانه وخاصة العم أبو صلاح، وقصة حبه لامرأة متزوجة، وسفره إلى مصر للتعزية بوفاة الموسيقار بليغ حمدي. وإلى “مراد” في فيلم العاشق وعلاقته بمحيطه ولاسيما حبيبته لينا، وكذلك “رمزي وليلى” في طريق النحل، وقصة “طرفة وعفاف” وصداقة الجدين المختلفين مذهبيا في “أنا وأنت وأمي وأبي” كلها شخصيات تتسم بالنقاء والتفاني في حب الآخرين والتسامح معهم، وهي الرسالة التي يحرص عبد الحميد على تضمينها في جلّ أعماله، إلى جانب استحضار الموسيقا كثيمة ملازمة لكل شيء جميل في حياتنا، فمن يتتبع أفلام عبد اللطيف لابد وأن يستوقفه ربط شخوصه بآلة موسيقية معينة تضفي السحر على الحكاية، ففي “نسيم الروح” يعزف سامر على آلة القانون، ومراد في “طريق النحل” يعزف على آلة العود، وطلال في “عزف منفرد” على آلة الكونترباص، هناك توظيف شفيف للموسيقا وربطها بالمواقف الإنسانية الخلَّاقة.
قدمت السينما السورية أفلاما عديدة تناولت فيها الأزمة لمخرجين متميزين، لكن عزف عبد الحميد السينمائي كان متفردا بخصوصيته وقراءته البصرية التشكيلية لهذه الأزمة ديدنها الأساس هو الممثل بالدرجة الأولى الذي يعيد صناعة شخصيته لاستخراج عصارة الإبداع لديه كما فعل مع فادي صبيح في دور طلال، وجرجس جبارة بدور العم إبراهيم، وأمل عرفة بدور رنا، ورنا شميس بدور سوسن، وأكرم شعراني. أداء متناغم وإحساس عال في معايشة الحالة، وصنع المفارقة التي تجعل المشاهد يتوقع أحيانا ما سوف يشاهد لاسيما في مشهد دخول سوسن فجأة إلى المطعم والغناء على لحن أغنية أسمر يا اسمراني التي كان يعزفها طلال ورفاقه. وهي المفارقة ذاتها التي لاءمت بين المشهد الافتتاحي والمشهد الختامي مع فارق تبادل الألم بين الشخصيتين العم إبراهيم في المشهد الأول وطلال في المشهد الأخير، لتتعزز الواقعية السحرية كسمة عامة في سينما عبد الحميد الساحرة، هذا المخرج الذي قرر عدم رفع الراية البيضاء والاستسلام لواقع وظروف السينما السورية الإنتاجية، وأصر على مواصلة مشوار الإبداع وعشق السينما والحياة وفق الإمكانيات التي يستطيع إليها سبيلا.

آصف إبراهيم