ضلوا اضحكوا!؟
د. نهلة عيسى
مطر, ورياح, وصقيع فاجر, ومدفأتي ثور حرون, علاقتها بالريح ليست على ما يرام, والكهرباء سيدة عزيزة المنال, وأدفع أنا الثمن, تكتكة في عظامي, وسني يقرع سني, وأتحايل على البرد بالحلوى والطعام, ويدي لا تفارق فمي, ويزداد وزني, ولا يزداد دفئي, فأهرب مثلما كانت تفعل المرحومة أمي عندما كانت تريد التلهي عن حزن الحاضر بالرحيل إلى الماضي, فأنبش الصور, وأفتح خزائن الأحلام الممزقة, ارتقها وارقع معها ثقوب ذاكرتي بحكايات أمي الجميلة, عن الشاطر حسن والجليلة والزير, وذاك القزم الذي يخفي في داخله أميراً, ولأحيك من الوهم قصص حب, كالتي روتها لي يوماً, ليس فيها وحش, ولا غول, ولا ذئاب, ولا آهات, ولا عتمة, ولا برد, ولا أصحاب قرار يدفنون رؤوسهم في فروات الادعاء بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان! لكن كل هذا لا يجدي, لذلك, وبعقل الطائر أقرر الرحيل إلى الدفء, فيقودني القلب على خطى الجند!!.
صقيع فاجر, والجبهات نار, وجذر أخضر عميق الغور, يتوالد في وطني بكرامة, جذر يقاوم المخرز, ويؤكد أننا بلد لا يمكن لآبار النفط أن تحرق تاريخه وحضارته وعنفوانه, وأن التحليق على مدار تسع سنوات في سماوات الوجع, لا يمكن أن تحول الحي إلى مقدد, والمسدس إلى وثن, وأن أمسنا بكل قبحه, لم يصب جيشنا بالشلل, ولا اليقين خالطه سراب, ولا الحدود الوسط باتت ملاذاً على حساب دماء الشهداء, ولا الطريق إلى الفجر ليلٌ طويل, الدليل إليه قناص, أو جلاد, أو قاطع رؤوس, وفي أحسن الأحوال ممول, أو داعم, أو متورط حتى أخمص أذنيه في ليل موتنا البهيم الطويل!.
الجبهات نار, وقلبي بات رصيفاً, لم تبق قدم حزن في العالم كله لم تطأه, ولكني وسط الجنود, وبودي أن أحتضن الجميع آسفة.. معتذرةً, عمن جعلوا السلاح, البرد, الوحدة, حبيباتهم الوحيدات لتسع سنوات, رغم أني “حقاً” كلما ذهبت إليهم أعتذر, وأتشاغل بنصرهم في الميادين عن الهزيمة في معركة اللقمة والرغيف, وعن كل ما يجري وجرى, فعرائش الياسمين احترقت, والأشجار تعرت, والفراشات تحنطت بفعل النار, وفعل التغاضي عن النار, وفعل أحزاننا التي ملأت البحر, ولا عزاء للبحر, لأن قادة مراكبه على الموانئ يصدرون التصريحات: أن كل شيء بخير, والنوارس تملأ السماء, ولكن البحارة (نحن) يعانون دوار البحر وثمالة السهر, ويفترض أن نصدق أننا سكارى!؟ فمن نصدق يا رعاكم الله, البحر أم قادة المراكب, أم أننا حقاً سكارى!؟
الجبهات نار, وضحكات الجنود تجعلها برداً وسلاماً, وقرية تلو بلدة, الوطن يتحرر, وأنسى وسط أكاليل الغار أننا في الساعة المئة بعدالمليون من جرح الوطن, ورصيف الصبر يضيق بنا, ننتظر على ضوء شمعة, وببرود يشبه الخيبة, أن تنعى إلينا أنفسنا, لأن طهاة حياتنا لا وقت لديهم للرد علينا, لنعرف لماذا يجب أن نعتبر الظلمة صديقاً, ولماذا نحن مجبرون على العيش في طوابير, ولماذا الصقيع بات أسلوب حياة, ولماذا كان المقابل للنصر على جبهات القتال, موت يراعات الفرح على باقي الجبهات, لئلا يبقى في الوطن جذر أخضر, يمكن أن يورق من جديد!؟!
الجبهات نار, وقلبي مثل النار, لا أريد العودة, ولكني مضطرة, فأودع الوجوه الحبيبة إلى لقاء قريب, وأصرخ من بعيد “ضلوا اضحكوا”, فيردون علي بإشارات النصر وبالضحكات, وبوجوه صادقة.. حقيقية, أنزلتني عن صليب الآلام, ووضعتني على آرائك الأمل بأن قادم الأيام في الوطن ليس ملكاً للقتلة, ولا للمستفيدين في الخارج والداخل من الحرب علينا, وأن الرب الذي ظلل “العذراء” بنخلته ليولد يسوع, يظلل هذا الوطن بملايين أشجار النخيل, ليولد مليون قديس ونبي, يصلبون على حدود الوطن, وبدمائهم يشترونه ولكنهم أبداً..لا يبيعون.