..وانهمرت غيمة الليل!
سلوى عبّاس
قال لها: عندما أقرأ ما تكتبين تتألق روحي، وتأخذني لغتك بعيداً عن مشاغل الحياة ومتاعبها، فأجابته أنها تكتب عن الحب لتثبت أن “فاقد الشيء يعطيه”، وبعد عدة أيام، عاد وسألها: ماذا ستكتبين هذا الأسبوع؟. فأجابته: كالعادة سأكتب عن “الحب” خاصة وأن اليوم ذكرى عيد الحب!. فقال لها: وهل أنت مقتنعة أن للحب وجوداً في حياتنا؟.
قالت له: الحب موجود ولا يمكننا نكرانه ولا أن نعيش بدونه، لكن ربما أخطأنا بتقييد مفردة الحب وحصرها بالعلاقة بين اثنين رجل وامرأة، لأن الحب كمفهوم أشمل من ذلك بكثير، فهو ينشأ معنا منذ لحظة الحنان الأولى التي تغدقها الأم على طفلها، ويتنامى ويكبر ليتمثل بمكونات شخصيتنا كلها، وهذا كله يندرج تحت مسمى الحب، وهذه الصبيّة هي أكثر من خبرت الحب، فقد عاشته في كنف أسرة أغدقت عليها الكثير من حبها وحنانها، فكان زادها ومخزونها الذي تعيش فيه مع محيطها، ومع الناس الذين افتقدت الوفاء لدى كثيرين منهم، لكنها عندما يحضر الحب في روحها لا يمكنها أن تعيش خارج إحساسها به، ولا أن تسمع إلا صوته، لأنها حينها تكون في إنصات لقلبها وروحها تداني خلجاته وشجن الناي الصموت في بوحه، ويستيقظ قلبها ليرى ألوان الحياة، فهي لا تحب الوقوف على الأطلال، ولا تستسلم لأي حالة انكسار، بل تجعلها بداية حلم جديد، فحقائب الحياة لا نستطيع حملها لوحدنا، ونحتاج من يحمل عنا شيئاً من أيامها، لذلك الروح التي لا تشاركها روح أخرى يقتلها المرض، والحب لا ينطبق عليه وصف أنه حالة مضت بمرور الوقت عليها، بل يمكننا القول إن لهفة الحب التي جمعت بين قلبين، تخلت عنهما، وبالمقابل هذا لا يعني أن نغلق أبواب قلوبنا خوفاً من وجع آخر قد يسببه لنا الحب، لأنه عندما تُسرق قلوبنا، سارقها يتسلل عبر الأرواح وليس عبر الأبواب.
****
كانت في الثلاثين من عمرها عندما أدركت الحب الحقيقي وعاشته حكاية تشبه في تفاصيلها قصص الحب التاريخية من حيث صدق الحالة وشغف الروح، وقد عاشت هذا الحب حقيقة مطلقة، تملّك كيانها حتى أصبح الإكسير الذي يغذي روحها، ويجعلها تحلق في سماء الأحلام الوردية.. وحينها لم يكن لهذا الحب من غاية عندها إلاّه، فكان الأمل والمرتجى، لم تختره لحاجتها لرجل، بل اختارته لحاجتها لروح تسبغ عليها قداستها وتحييها من مواتها فعشقته وأحبته حتى الموت، لكن على ما يبدو أن الحب أعمى، إذ فجأة وبدون سابق إنذار أخذ سور من الأشواك والطين ينمو بينهما، وأخذت أحلامها تبترد شيئاً فشيئاً، والياسمين الذي أزهر لأجلهما أخذ يذبل، والوقت هو الوحيد الذي بقي حولها متنامياً قاسياً كنبتة فولاذية، يدق أجراس انقضاء الحلم وتوهج الحب، مضت كل احتمالات تحقق الرؤيا، وانهمرت غيمة الليل في تلك الظهيرة، وتلوت الدروب أمامها تائهة في كل الاتجاهات هاربة إلى متاهة الانتظار الذي خبا.. ناجت ذاتها أنه قد يعود في المساء.. في عتمة الليل أو في صباح قادم.. أو مساء.. انفلت الحلم الذي حضنته طويلاً منداحاً في كل الأرجاء.. وتبعثر حنينها إليه على رصيف بارد راحت تلملمه وتجمعه، عسى أن تحدث معجزة تعيده إليها فينفخ فيه من روحه فيعاود ارتجافه ورعشاته الدافئة، لكنه أصر على الغياب وكان قراره بالابتعاد وذهبت وعوده في الحب أدراج الرياح فكم هي مفارقة عجيبة ومؤلمة أن تبدأ الحياة بهالة من الألق لتخبو فجأة ويتبدل كل شيء إلى سراب.. هي البدايات جميلة دائماً لكنها لا تستمر.. ويصبح من نحبهم عابرون بعد أن كانوا ملاذ أرواحنا.