عطفاً على قرار مجلس الشعب المطران مار أدي شير ضحية الإجرام العثماني
علي اليوسف
عطفاً على قرار مجلس الشعب بإدانة وتجريم الإبادة الجماعية المرتكبة بحق الأرمن على يد الدولة العثمانية بين عامي 1915 و1923، والتي راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف مليون مواطن أرمني، لابد من التأكيد أنه لا العثمانية القديمة ولا الجديدة لم تتركا سياسات الاعتداءات والإبادة والاحتلال والاستيطان، ليس ضد الأرمن فقط، بل أيضاً ضد الكرد والعرب وشعوب البلقان كما لا بد من الإشارة إلى أن العثمانيين بالأساس غرباء عن هذه المنطقة، وأسوأ تجلٍ لهم هو نظام أردوغان الذي يتاجر بالإسلام.
ولقد ارتكب العثمانيون مجازر جماعية في حلب، حيث قتلوا أكثر من أربعين ألف مدني، وعندما دخل السلطان سليم الأول إلى القاهرة، ترك جثامين 10 آلاف مصري، قتلهم جنوده، في الشوارع، بعد أن نهبوا بيوتهم وأحرقوا مساجدهم ونشروا الرعب في البلد الآمن، على مدار 4 أيام فقط من وصوله إلى المدينة.
ومذبحة القسطنطينية مجزرة أخرى قامت بها سلطات الدولة العثمانية، وذلك انتقاماً لاندلاع حرب الاستقلال اليونانية 1821-1830، حيث أنّه بمجرد وصول خبر الانتفاضة اليونانية إلى العاصمة العثمانية، وقعت في المدينة عمليات إعدام جماعية، وتدمير الكنائس، ونهب ممتلكات السكان اليونانيين في المدينة، وتوجّت عندما أمر السلطان العثماني محمود الثاني بشنق بطريرك القسطنطينية غريغوريوس الخامس.
وفي كربلاء في العراق نصب الوالي العثماني نجيب باشا المدافع الكبيرة حول المدينة وأمطرها بوابل من القذائف، وتمكن من فتح ثغرة في القلعة، وأصدر أوامره باقتحام المدينة واستباحتها ونهبها عقابا لأهلها، وبلغ عدد القتلى 24 ألفاً.
يضاف إليها مذابح سيفو، التي ذهب ضحيتها نصف مليون من السريان.
الفكر الإجرامي الذي لازم العثمانيين منذ نشأة سلطنتهم البائدة قبل قرون، انتقل من الأجداد إلى الأحفاد. وأبشع المجازر، التي ارتكبت في تاريخ البشرية بحق الشعب الأرمني على يد جزار السلطنة العثمانية، مذابح الأرمن أو “جينوسيد” و”المجازر الحميدية”، نسبة إلى السلطان العثماني عبد الحميد، يكرّرها اليوم أحفاد السلاطين بزعامة أردوغان، المهووس باستعادة أمجاد السلطنة العثمانية، حيث بدأ جرائمه بشراكة عضوية مع التنظيمات الإرهابية كـ “داعش” و”جبهة النصرة” وغيرهما، ووفّر لها الرعاية والتدريب والتمويل، وسهّل إدخالهم إلى الأراضي السورية لارتكاب المجازر بحق أبناء الشعب السوري، وصولاً إلى عدوانه الموصوف على السيادة السورية، ودخول قواته إلى داخل الأراضي السورية شمال البلاد.
ونحن إذ نعيش اليوم عدواناً تركياً على سورية من الضروري الإضاءة على الجريمة النكراء التي ارتكبها العثمانيون عبر تصفية المطران مار أدي شير، مطران أبرشيّة “سْعرت” الكلدانيّة (1867-1915) وبدم بارد.
ولد المطران مار أدي شير في بلدة شقلاوة شمال العراق، في شباط 1867، بعام 1880 دخل معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي في الموصل، وأتقن الكلدانيّة وبرع في العربيّة والفرنسيّة واللاتينيّة والتركيّة، وانكبّ على الفلسفة واللاهوت والتاريخ بنوع خاصّ. أسّس مدارس في جميع مراكز الأبرشيّة، وأقام فيها أخويات دينيّة عديدة، وترجم صلوات طقسيّة إلى اللغة التركيّة.
وفي عام 1902 انتخب أدي شير مطراناً لأبرشيّة “سْعرت”. سافر إلى أوروبا في أيلول عام 1908 عن طريق ديار بكر فأورفا فحلب فبيروت، ومنها انتقل إلى روما. وبعد أن زار الأماكن المقدّسة في روما، غادر إلى باريس حيث اتصل بعدد كبير من المستشرقين، ونشر بعض مؤلفاته.
في الحرب العالميّة الأولى اندحر الجيش العثماني أمام الجيش الروسي، فراح ينتقم ممن يعترض سبيله من كافة الطوائف. فاستدعى حلمي بك، والي “سْعرت”، المطران أدي شير، وأشعره بالخطر، فدفع له المطران أدي شير 400 ليرة ذهبية لقاء وعده بالحماية له ولأبناء رعيته.
وعند تفاقم الأوضاع لجأ إلى الهرب لكي يدبّر وسيلة نجاة لرعاياه، فقصد متنكراً قرية في جبال البوتان حتّى افتضح أمره، فاقتيد إلى تلّ بين قريتي دير شوا، وعيني، وهناك قتلوه، وكان ذلك في 17 حزيران 1915.
كتب العديد من المؤرّخين عن استشهاد الحبر مار أدي شير، وقد استقصوا معلوماتهم من خلال ما سمعوه، شهود عيان، كانوا قد التقوا بهم بعد هدوء العاصفة. ومع وجود اختلاف في بعض النقاط بين شهادة وأخرى، لكنّ المضمون يبقى واحد.
في مطرانيّة حلب الكلدانيّة وثيقة بخطّ الأب (المطران) صموئيل شوري تحت عنوان “أضواء جديدة على استشهاد المطران أدي شير” مؤرّخة في 23/ 3/ 1963 وهي شهادة للمدعو عبدو حنا بزر من طائفة الأرمن الكاثوليك، تحدث فيها عن استشهاد المطران أدي شير، نقلاً عن عثمان آغا الطنزي: “في عام 1916 ذهبتُ مع الجيش الألماني إلى قرية طنزي لأجل شراء مستلزمات لأجل صناعة الأكلاك. وهذه القرية تقع في جبال البوتان، بين مدينتي الجزيرة وسْعرت. وهناك التقيت عثمان آغا الذي قصّ عليّ ما جرى للمطران شير قائلاً: تعود صداقتي الحميمة مع المطران إلى عام 1913 عندما حكمت عليّ الحكومة العثمانية بالإعدام غيابياً، فذهبت إلى “سْعرت”، والتقيتُ المطران شارحاً له قضيتي. فاستقبلني أحسن استقبال، ومضى بي إلى دير البواتري “الآباء الدومينيكان” وخبأني عندهم، وطلب منهم التوسّط لدى القنصل الفرنسي في اسطنبول للحصول على عفو من الحكومة لي. وبالفعل نلتُ العفو بجهودهم.
وفي عام 1915 عندما بدأت المذابح بحقّ المسيحيين، علمتُ أنّ المطران يعاني الكثير من المضايقات، فذهبتُ ليلاً مع ثلاثة من أخوتي إلى “سْعرت”، وهرّبنا المطران، وجئنا به إلى قريتنا طنزي التي تبعد مسيرة 6 ساعات سيراً على الأقدام. وبعد ثلاثة أيام طلبت مني الحكومة تسليم المطران المختبئ عندي، لكنّني أنكرتُ وجوده عندي، قائلاً إنّه هرب هو وجماعته، ولا أدري إلى أين اتجهوا. في هذه الأثناء، أرسل رسول محمد آغا رجاله إلى الجبل للتأكّد من مكان المطران وجماعته. وبعد أن عرف رسول آغا مكان وجود المطران، طلب من الحكومة أن تزوده بالجنود، فذهب إلى المكان المحدّد، وأحاطه بالجنود ورجاله حتّى ألقوا القبض على المطران. فاقتاد رسول آغا المطران إلى قرية تل ميشار التي تبعد مسيرة ساعة عن قرية طنزي، وهناك سلّمه لضابط تركي. فطلب المطران من الضابط أن يمنحه بعض الوقت ليؤدّي صلاة قصيرة، فسمح له الضابط بذلك. وبعد أن انتهى من صلاته سلّمه الضابط لرسول آغا، وطلب منه أن يقتله بطلقة نارية. فاقتاده رسول إلى مغارة صغيرة شمال القرية، وقتله هناك. ثمّ جاء رجال رسول واحرقوا جثة المطران شير. وأضاف عثمان آغا أنّ رسول آغا قتل كلّ كلدان قرية تل ميشار وعددهم 200 عائلة، واستولى على جميع ممتلكاتهم، كما قتل كلّ المسيحيين الذين التجئوا إلى حمايتي.
إن جرائم الإبادة ضد الشعوب لا يمكن أن تموت بالتقادم، وبالتالي إن إبادة أكثر من مليون ونصف مليون ليست مجرد حادث تاريخي، وإنما علامة سوداء في تاريخ البشرية. وإن دموع التماسيح التي يذرفها أردوغان على إرهابييه في سورية لا تعدو ظاهرة سطحية تقترن بمشاعر كاذبة، ما يعني أن المناخ السيّىء الذي تعمد العثمانية الجديدة إلى تعميمه في هذه المنطقة من العالم سيجعل الأجيال الطالعة من شعوبها (ولا سيما العرب والكرد)، ودولها (العربية وغيرها) تفكّر في إعادة النظر كثيراً في تاريخ الدولة العثمانية المبني على الدم.