في ثقافة التلقي
أحمد علي هلال
على الأرجح أن معظم الدراسات النقدية، قد أعلت من شأن التلقي ومستوياته المختلفة، لكن ما يخلص إليه الدرس النقدي، هو أن المتلقي الذي أُعلن عن ميلاده غير مرة، بمعنى تغير أدوار النقد وبوصفه –القارئ- المُنتج النهائي للنص الإبداعي على إثر أطروحة الناقد الفرنسي الباهر «رولاند بارت» الذي أعلن أطروحة موت المؤلف، فصاحب كتاب «نقد وحقيقة، ولذة النص» وغيرها، ذهب أبعد من ذلك أي إلى استبطان طرائق التفكير وخلخلة البنى القارة والذهنيات المستقرة، ليفتح في فضاء الثقافة غير أفق معرفي بما يشترطه النص الإبداعي في سياقاته وبنيته وخطاب حكايته، والقارئ اليوم المستهدف في القراءات لا تتأتى له تلك الأدوار دون مرجعية قرائية ومعرفية، ليقف على أرض النص قارئاً عابراً للأنساق، ومن ثم ذاهباً إلى لذته هو ولعل هذه اللذة هي لذة معرفية بامتياز، وعليه فإن خطاب المعرفة هذا لا ينفصل في بنيته عن نظرية المعرفة التي أصبحت ضرورة أخلاقية ومعرفية للتعامل مع النصوص، وليس الحياد معها وعبور حبرها بشكل مجاني وبخفة لا تُحتمل، ولعل ذلك سيعيدنا إلى المعضلة القديمة الجديدة هي معضلة الفهم التي عادة ما تتجلى بشكل أو بآخر في ندوات المراكز الثقافية ولا سيما في الأمسيات النقدية المحايثة لتوقيع كتاب ما أو للحديث عن إشكالية نقدية بعينها.
ومن الطبيعي القول هنا أن القارئ العام هو من يأخذ مفاتيح القراءة للولوج إلى النصوص المقروءة، وهذا سيعني أن طبيعة ما يُبث له من الدرس النقدي المحتمل أو الإضاءة العابرة، هي من ستعيده باحثاً إلى السمات والخصائص التي انطوى عليها النص المُبدَع، لكن ثمة إشكالية تركت أثراً في عملية التوصيل للقارئ تجهر بها سلوكيات تدعي القبض على الحقيقة كاملة، وهذا يعني وجود القارئ كشاهد فحسب، بعيداً عن وظائفه المحتملة في الاستيعاب والتحليل والفهم، ما يعني أن ثقافة التلقي المنشودة هي ثقافة مركبة وليست ناجزة بالضرورة، وتركيبها يعني إسهام هذا المتلقي بقسط من التفاعلي بعيداً عن المدائح المجانية والسياحات العابرة التي لا شأن له بها، وظيفة تعيد للدرس النقدي أصالته، أي وقوفه على الجوهر والماهية، وتعيد للإبداع وظائفه العابرة للنصوص، لنذهب إلى تقاليد مؤسسة الكتابة والإبداع بعيداً عن أوهام النخبة التي تستأثر عادة بخطابها، حقيقة أن على القارئ أن يفكك جملة من الخوارزميات والمعادلات الهندسية التي يشي بها «ناقد ما» بقدر ما نذهب إلى خطاب نقدي متسق في خطابه ومفرداته، بل وفي ثقافته أيضاً تلك المتصلة بثقافة القارئ، وبما يعني بالمحصلة ثقافة التلقي المتباينة الأدوار والمستويات ولعل تحرير المعنى هنا بالقول بثقافة التلقي، هو ما يعني أكثر من تغير وظائف القراءة وخلخلة النمط السائد فيها، بل إلى تشاركية خلاقة تعني مؤسسة الإبداع كما تعني مؤسسة النقد وتسعى إلى جسر الهوة بينهما، وامحاء الحدود بينهما دون أن تفقد الفرادة في النص النقدي الجيد الذي يخلقه الإبداع الجيد والحقيقي.