ثقافةصحيفة البعث

ليلى الأخيليّة ومفهوم الفحولة الشعريّة

مفهوم الفحولة الشعريّة العربية تاريخيّاً، مفهوم ذكوريّ يرفض ولوج الأنثى الشاعرة عتبة قصره العاجي، حتى لو امتلكتْ كلّ وسائل التبرّج الشّعري التي تؤهّلها لمثل هذه المغامرة المحفوفة بمخاطر التّغييب والتّقليل من الشّأن، بل والطّرد من جنّة الذّكورة الشّعريّة. أمّا حين يتحوّل الرجل إلى “موضوع شعريّ” فإنّه بذلك لن يعود هو الفاعل في الشّعر، وهذا ما اعتبره النّاقد الدكتور “عبد الله الغذّامي” بمثابة تفكيك لموضوع الفحولة، لكن رغم اعتراف كبار الشّعراء بإجادة الكثيرات لأدواتهنّ الفنيّة الشعريّة، وأنّهم استفادوا من تجاربهنّ كـ”أبي النّواس” الذي قال: بأنّه ما قال شعراً حتى روى لستّين امرأة منهنّ “الخنساء، وليلى الأخيليّة” وحذا حذوه “أبو تمّام” بقوله أنّه لم ينظم شعراً إلّا بعد أن حفظ سبعة عشر ديواناً للنّساء خاصّة. مع ذلك لم يصل إلينا سوى القليل من شعرهنّ، والسؤال الأهمّ هنا هو: أين ضاع تراث المرأة الشعريّ إذن؟!. وحتّى هذه القلّة من النّساء اللّواتي نجحنَ في دخول الجنّة الشعريّة الذّكوريّة بأدوات الذّكور، من مدح وفخر وهجاء ورثاء وغيرها. لم يسلمن من الاتهامات بالاسترجال وغير ذلك من أصناف التقليل من الشأن. تقول “أم حكيم الخارجيّة زوج الشاعر الخارجي “قطريّ بن الفجاءة” وهي ترتجز الشعر وتقاتل إلى جانب زوجها وقد تماهتْ مع الخطاب الذكوري الشّعريّ تماماً:
“أحمل رأساً قد سئمتُ حمله.. وقد مللتُ دهنه وغسله.. ألا فتى يحمل عنّي ثقله”
لكنّ “ليلى الأخيليّة” التي عاشتْ في العصر الأموي، الذي قيل بأنّه وفّر للمرأة حريّة اختيار الزوج، والشجاعة بنقد الشعر والشعراء، وحتى مواجهة حكام العصر. استطاعت التّميّز بفرادةٍ خاصّة، تجلّتْ بأنّها نجحتْ بتفكيك مفهوم الفحولة الشعريّة الذكوريّ حسب تصوّر “الغذّامي” السّابق، كونها حوّلتْ الذكر نفسه إلى معشوق فغداً موضوعاً مفعولاً به لا فاعلاً. واستطاعتْ بحضورها الأنثوي الشّعريّ قلب طرفيّ المعادلة بما يخدم مرادها، وبذلك تكون رغم خوضها في مجالات الشعراء الذكور من مدح وذم وافتخار وهجاء ورثاء وغيره من الأغراض الشعرية الدارجة، قد اتّخذت منحى جريئا ضدّ التّابوات في مجتمع صحراوي تخيّم عليه القيم الذكوريّة الشديدة الوطء والهيمنة. لقد تحايلت الشّاعرة على المقدّمة الطّللية المألوفة، حيث لا يمكنها مخاطبة الحبيب الذي تحتفظ له بداخلها بمكانة عظيمة، هو “توبة بن الحُمَيَّر” باستغلال كلّ مناسبة لترثيه وتعدّد خصاله وصفاته الرقيقة والجسورة بآن معاً. وقد كانت العائلة رافضة لتزويجها إيّاه، ومع ذلك ظلّ يسعى للقائها ولا تمانع، حتى بعد زواجها الثاني، حتى وصلتْ شكوى قومها إلى السلطان فأفتى بهدر دمه، ومع ذلك استطاعتْ تجنيبه هذا الأمر، سافرةً عن وجهها في الطريق إلى لقائه، فعرف أنّ في الأمر شرّاً ينتظره، فارتحلَ من طريق آخر وهو يرتجز الشّعر قائلاً:
حمامةُ بطنِ الواديين ترنّمي سقاكِ من الغرّ الغوادي مطيرُها
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقعتْ فقد رابني منها الغداةَ سفورُها
من أخبارها المتّصلة به، أنّها دخلتْ على الخليفة “عبد الملك بن مروان” وقد تقدّمت في السنّ فقال لها: ما الذي رآه توبة منك حتى عشقكِ؟ فقالت متحدّية إيّاه بسؤال يشبهه: ما رأى الناس منك حتى جعلوك خليفة؟ فضحك حتى بدتْ له سن سوداء كان يخفيها. ثم سألها ثانية: بالله هل كان بينك وبينه سوء قطّ؟
قالت: والذي ذهب بنفسه وهو قادر على ذهاب نفسي ما كان بيني وبينه سوء قطّ، إلا أنّه قَدِمَ من سفر، فصافحته، فغمز يدي، فظننتُ أنّه يخضع لبعض الأمر، أيّ يريد منها أمراً هي لا ترغب فيه.
قال: فما بعد ذلك؟
فقلتُ له:
وذي حاجةٍ قلنا له لا تُبحْ بها فليس إليها ما حُييتَ سبيلُ
لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونَه وأنت لأخرى فارغٌ وحليلُ
ثم قالت: لا والذي ذهب بنفسه ما كلّمني بسوء قط حتى فرق بيني وبينه الموت.
ثمّ لم يلبث أن خرج في غزاة له كان فيها مقتله، فأوصى ابن عمه بأن ينادي بأعلى صوته في ديارنا لأسمعه:
عفا الله عنها هل أبيتنّ ليلةً من الدهر لا يسري إليّ خيالُها
فخرجتُ قائلة:
وعنه عفا ربّي وأحسن حالَه فعزّ علينا حاجةٌ لا ينالها
وحين سمعتْ بموته خلعت الزينة وأقامت في حزنها طويلاً وحين شكّك بروايتها أحد جلساء الحجّاج بن يوسف الثقفي، وقال: “أظنها كاذبة”.
قالت له: إنّ هذا القائل لو رأى توبة لسرّه ألّا يكون في داره عذراء إلّا وهي حامل منه. فضحك الحجّاج وامتعض الجليس.
وتقول فيه أيضاً:
وتوبةُ أحيَا من فتاةٍ حييّةٍ وأجرأُ من ليثٍ بخفّان خادر
أيا عين بكّي توبة بنَ حميّرِ بسحٍّ كفيضِ الجدول المتفجّر
وتقول أيضاً:
فيا توب ما في العيش خيرٌ ولا يعدُّ وقد أمسيتَ في ترب نفنفِ
وما نلتُ منك النصفَ حتى ارتمتْ منايا بسهمٍ صائب الوقع أعجف
وهاهي بقوة شخصيّتها تُغضب “عاتكة” زوج الخليفة “عبد الملك بن مروان” مفضّلةً “توبة” عليه. بعد أن عيّرته بفساد رائحة فمه. تقول ليلى:
أأجعلُ مثل توبة في نداه أبا الذّبانِ فوهُ الدهر دامي
معاذ الله ما عسفتْ برحلي تغذّ السّير للبلد التّهامي
أقلتِ: خليفةً فسواه أحجَى بإمرته وأولى باللّئام
أوس أحمد أسعد