النفس والجسد
محمد راتب الحلاق
ثنائية النفس والجسد خاصة بالإنسان، وقد انحاز المتصوفة وأصحاب المذاهب الأخلاقية إلى العناية بالنفس، ومنهم الشاعر العربي الذي قال:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته
أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
في حين انجاز أصحاب مذهب اللذة إلى العناية بالجسد مصدر اللذات الحسية جميعاً، وقد تطرف الفريقان، لأن الإنسان جسم ونفس في آن معاً، وأي اختزال لهذه الثنائية إلى أحد طرفيها سيكون أمراً مفتعلاً وغير واقعي. فالجسد آنية النفس ومسكنها، والنفس روح الجسد (بغض النظر عن التساؤل الفلسفي المزمن عما إذا كانت النفس هي ذاتها الروح أم إنها شيء آخر مختلف).
الإنسان السوي يعتني بجسده وبنفسه، فجسده العنوان الظاهر لنفسه وذاته، لذلك يحرص على ظهوره في أحسن صورة، من حيث الصحة والنظافة والأناقة، بعد أن خلقه الله في أحسن تقويم؛ ويعتني بنفسه فيصنع منها ذاتاً نبيلة تتحلى بمكارم الأخلاق، وتحاول أن تحصل على أكبر قدر ممكن من الثقافة والمعرفة والخبرة.
والفرد الإنساني الذي يتمتع بالصحة النفسية يتميز بالنجاح في إقامة التوازن الفعال بين حاجاته وإمكاناته واستعداداته، نتيجة عملية التكيف (والتكييف) التي يقوم بها، لتحقيق المواءمة مع محيطه (الاجتماعي والمادي).
أما حين يعجز الفرد عن تحقيق هذا التوازن، فيغدو بحاجة ماسة إلى الدعم والمساندة والإرشاد، لإقامة التناسق بين الوظائف النفسية المتعددة، الأمر الذي يعد ضرورياً من أجل الشعور بالأمن، وتقدير الذات، واكتشاف الاستعدادات والقدرات والإمكانات الحقيقية والواقعية التي يمتلكها، ومواءمة ذلك مع أهدافه وطموحاته، مما سيؤدي إلى الاتصال الصحيح والواقعي والفعال والمثمر مع المحيط، كما سيقود إلى التعلم من التجارب والاستفادة من الخبرات، وسيقود كذلك إلى حسن التواصل مع الآخرين، وإنجاز ما يتوقعونه منه، مع الاحتفاظ بالقدرة على المبادرة ومخالفة التوقعات، حين تكون المخالفة ضرورية للتعبير عن الذات المستقلة والمتفردة.
والملاحظ أن الفرد، ولاسيما في المجتمعات الشرقية، يجد حرجاً شديداً في طلب الدعم النفسي، ويعد ذلك علامة من علامات الضعف والعجز الذي لا يليق بالناس المحترمين: بل إنه يرفض الاعتراف، مجرد الاعتراف، بحاجته لمثل هذا الدعم، ويعد سلوكه النموذج والمعيار للسلوك السليم والراقي. أما الإخفاقات المتكررة التي تواجهه في البيت والعمل والشارع وفي كل مكان فيرجعها إلى خلل في شخصيات الآخرين وسلوكهم. ففي حين يسارع إلى طبيب الأجسام لدى إصابته بأدنى ألم أو وعكة فإنه لا يفكر بمراجعة الطبيب النفسي، ولا المرشد النفسي حتى وإن كان يتلقى الإخفاق تلو الإخفاق. لأنه يخشى أن يتهمه الآخرون بالجنون إن علموا بمراجعته للطبيب النفسي أو للمرشد النفسي. ولعل في هذا ما يفسر قلة عدد الأطباء النفسيين وندرة المرشدين النفسيين في المجتمعات الشرقية، وكيف أن معظم من يراجع هؤلاء هم ممن يعانون اضطرابات عقلية متفاقمة لم يعد من الممكن إخفاؤها أو تحملها، مع أن الاضطرابات النفسية موجودة عند كثيرين ممن يظهرون بمظهر العقلاء المتزنين، ومنهم من يجلس وراء المكاتب الفارهة، بل وفيهم من يقود مؤسسات اجتماعية مهمة، تصرفاتهم تدل على أنهم في حقيقتهم نقيض ما يحاولون الظهور به أمام الناس، ولو كانوا في مجتمعات أخرى ولم يذهبوا من تلقاء أنفسهم للعيادات النفسية لأحيلوا إليها، إن لم يكن ذلك من أجل مصلحتهم فمن أجل مصلحة أسرهم ومصلحة المؤسسة التي يعملون فيها، ومن أجل المصلحة العامة لتجنيب الناس حماقاتهم وسوء تصرفاتهم.