“الزير سالم وجساس والهجرس” في دار الاوبرا
التراث الشعبي العربي عند “الفريد فرج” هو المادة الأولية لمعظم نتاجه المسرحي، فذلك النتاج الذي وعند قراءة أيا من أعماله فإن سؤالا يقفز للذهن: هل يمكن أن يكون المسرح تعليميا، وأن يكون هدفه تغيير العالم؟ فالمسرح هو الأكثر قدرة على طرح الأسئلة والإجابة عليها، كونه فنا جماعيا مركبا، أي لا بد له من فنانين، وفنيين لكي يأخذ مكانه أمام المتلقي، ليكتسب حياته فوق الخشبة، مثلما حدث على خشبة دار الاوبرا، إذ قدم طلاب المعهد العالي، مشروع تخرجهم “الزير سالم” لمؤلفها “ألفريد فرج”، إشراف “حسن عويتي” عن نص يُمثل أنموذجاً لنصوص ألفرد فرج في اقتباسها للتراث الشعبي، وفي محاولتها تعميم مقولات قد لا يتفق معها الجمهور، فتتعالى عليه، و”تلقمه” بالملعقة أفكارا قد يأنف عنها لو أنها لم تُقنع بقناع الفن.
مسائل رفض الثأر والدعوة إلى السلام والمطالبة به، هي ما يميز نتاج الفريد فرج، وهذا ربما كان سببا لشهرته المدعومة من المؤسسات الفنية الغربية، لدرجة انه يمكن أن نطرح على الكتّاب المصريين سؤال: هل فعلتم شيئا منذ منتصف القرن الماضي، إلا أن تتنادوا للتطبيع!
بالنسبة للذين يفهمون في المسرح، والذين ينظرون إليه كفرجة درامية ينهض بها ممثلون على الخشبة، فإن نتاج “فرج” يتميز بأنه جيد عند القراءة، لكنه لا يلائم أن يُعرض على الخشبة، فكل أعماله أقرب إلى روايات على شكل حوارات مسرحية، ولدينا تجربة على سبيل المثال، مسرحية “العصفور الأحدب” لمحمد الماغوط، فهي جميلة عند القراءة ومستواها الشعري جيد، ولكنها ضعيفة الحركة أو كما يقال “الإشارات الركحية”، يكفي أن نعلم أن قصة “الزير سالم”، وبغض النظر عن نص ألفريد فرج، هي قصة ثأر وخيول وسيوف وحروب، هذا كيف له أن يتحقق على الخشبة؟ ليس من الممكن أن نهدم الكواليس، لتمرير بضع خيول غاضبات، ولا يمكن أن تتراشق الشخصيات بالرماح والسهام، خشية أن تصيب أحدا من الجمهور، وهنا لا بد من اللجوء إلى التغريب والأسلبة، وهذا ما حدث في مزواجة الرؤية الإخراجية بين التغريب المفرط والواقعية الممكنة، ما يعني إخضاع الحكاية ولي عنق الأحداث لمواءمة الشرط المسرحي، دون الانتباه إلى فعل ذلك درامتورجيا أيضا، وهذا ما جعل القصة تخسر أهم ما يميزها للظهور، شرطها البصري ومشقة تحقيقه على الخشبة، هذا بالنسبة إليه كعرض مسرحي، فما بالنا بمشروع تخرج، اضطر مُعده للاستعانة بشخصيتين من النسخة المتلفزة لـ “الزير سالم” تأليف “ممدوح عدوان” لتناسب الأدوار عدد الخريجين!كان من الأفضل على “فرج” أن يكتبها رواية، وأيضا كان الأفضل للمعهد العالي أن يدرك هذه النقطة، فلا يجازف بنص من المستحيل أن ينجح على الخشبة، رغم كل الجهد الذي بذله “عويتي” مزواجا بين عدة مدارس مسرحية وأنماط ركحية لتنفيذ ذلك.
هنا قد يتبادر إلى الذهن فورا نصوصا مسرحية تقتبس من التاريخ وكانت ناجحة، مثال “كاليغولا” –ألبير كامو”، أو مثل “يوليوس قيصر”–شكسبير- وهذا صحيح، هناك بالفعل أعمال مسرحية تستند على التاريخ وناجحة، ولكن ذلك النجاح يعتمد على التقاط الكاتب لما يصلح للمسرح من ذلك التاريخ؛ “كاليغولا” تحدث ذروتها في مجلس الشيوخ، الذي هو مسرح بحد ذاته، وأيضا هناك ذروة مؤثرة له عن عجزه امتلاك القمر، الأمر بسيط، بعض الإضاءة “القمرية” تكفي لتحقيق ذلك على الخشبة، و”يوليوس قيصر” تحدث ذروة المسرحية التراجيدية، أيضا في مجلس الشيوخ الذين يتآمرون على قتله، والأمثلة قد لا تنتهي عن أعمال تاريخية ناجحة، ولكن بشرط ان نعي أنها تصلح للخشبة، ولكن مطاردات “الزير سالم” على ظهور الخيل! “كاليغولا ويوليوس قيصر”كانا”رومان”، الأبنية والديكورات ومجالس الشيوخ، سهلة المحاكاة سينوغرافياً، بل إنه كان لديهم مسرح، أما عند صاحبنا “الزير” فالخيل والليل والبيداء تعرفه على رأي المتنبي، قد يمكن إحضار الليل على الخشبة كما تفعل الإضاءة التي تتراوح بين الظلال مع الرمادي والبرتقالي الأحمر الدافئ الذي يستجلب أجواء الثأر، ولكن يبقى الخيل والبيداء والرمح والسيف والقرطاس، هذا كان خطأ “ألفرد فرج” منذ البداية عندما قرر أن يشتغل على “أحدوثة” الزير سالم كنص مسرحي، وهي تناسب الرواية والسينما أكثر.
إذا كان مؤلف النص يُسخر المسرح في خدمة مقولاته “التطبيعية”، في زمان ليس زماننا، وبلاد لديها تجربة ليست كبلادنا، فلماذا الاستعانة بنصوص غريبة عنّا، نعم هي قريبة عندما نقرأها باللغة العربية، مثل ان نقرأ رواية جزائرية أو نصا مسرحيا مغربيا، ولكن ذلك على مستوى المنطوق الكلامي، أما كفرجة درامية فمن الذي يستطيع أن يُخضع النص لعملية دراماتورجية؟ هل مقولات ألفريد فرج مطروحة لدينا الآن؟ هذه “اللوثة” في الاعتماد على نصوص غريبة لا يمكن فهمها! ماذا يفعل طلاب الدراسات إذا؟ لماذا لا يكتبون نصوصا سورية أصيلة، ولنفترض أنه قد خلت البلاد من نص مسرحي مؤهل للانتقاء، فلماذا ألفريد فرج؟ لماذا نص مكتوب للقراءة وليس للعرض؟
تتميز إضاءة العرض بأنها تخفي بعضا من ثغرات الديكور، وهي وإن كانت مشغولة بحرفية عالية ومزاج فني يستطيع أن يضبط المشاعر التي يتركها المشهد، بأن تخدمه، فتحدد مشاعر البرود والالم بسبب الموت والفقد بالرمادي والظلال، بينما تصبح دافئة عند الثأر ووعيد الانتقام، إلا ان الديكور خذلها! بأن جاء مغرقا في “الأسلبة”، فليس هناك ما يؤكد “بصريا” متى تصبح شبه “الكنبة” عرشا أو قبرا، وهما معا-أي الإضاءة والديكور-إذا اضفنا إليهم الملابس التي لم تكن موفقة، والتي تناسب عرضا فلكوريا أكثر منه تاريخيا، لأنها حاولت الترميز المفرط مع قصة تاريخية مشهورة، ما يجعلها خارج السياق الفلكلوري، ويضعها في سياق ترميزي معدوم الدلالة، العناصر الثلاثة السابقة “الإضاءة، الديكور، الملابس” ليست بمفردها هنا ما حدد السينوغرافيا، فلقد ساهم الميزانسين برسم بعض ملامحها، مستعيرا من سينوغرافيا “البانتوميم”، وهو نوع سينوغرافي معقد يناسب أكثر العروض التي تتضمن على الرقص، لكن ذلك لا يخفي الجهود المهولة التي بذلها الطلاب في الأداء، فاظهروا قدرا من الحرفية والمهارة ظهرت جزئيا وليس وفق مستواهم الواضح أنه جيد ومميز، ولكن لا ينفع الأداء مع النص الركيك، وهذا ما جعلهم يخسرون الكثير من فرص التعبير الركحي.
لا بد من الإشادة ببوستر العرض الرشيق، الجيد، والذي يُحسن الترميز، لا بد أنه اعتمد على نص “فرج” وليس على تصور “المخرج”، فما نراه هو سيف يحمل كفة ميزان مقطوعة في احد أطرافها أو توشك أن تنقطع، في دلالة لماحة عن استحالة تطبيق الثأر مع العدالة.
تمّام علي بركات