حيروقة بين التضمينات الفنية والحقائق التاريخية
قصيدة جهات الوطن تكاملت مع قصائد عدة عن الشهيد ووجع الوطن والحب في مجموعة الشاعر عباس حيروقة الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، والتي تميزت بالجمع بين العمودي والتفعيلة والنثر، وتقنية التقطيع الحروفي الشبيه بعلم الصوتيات. فبدأتُ معه من عنوان مجموعته الذي يدل على المفارقات والتناقضات”من سيرة الغمام والظل” وعنوان إحدى القصائد التي أدرجت ضمن المجموعة عن رحلة الحياة من خلال الغمام عن الكون والوجود عن الماء سر الحياة.”
هو الغمام…كتاب من/فصول ذاك الكون/من روح ماء ومن/كتابات ضوء”فمضى بسياق الشعر قائلاً:
مجموعتي قسمتها إلى قسمين، الأول بعنوان أسئلة الفصول وضمت ست عشرة قصيدة شعرية مابين التفعيلة والعمودي، منها “فراغ- أسئلة برسم الذات-غربان البلاد- أشهد أنني-أنا السوري”، بينما حمل القسم الثاني عنوان أجوبة الماء وضم ستة نصوص نثرية، منها انتظار..انتظار، لتحتفي كلها بالحياة والحب وتدعونا إلى أن ننتصر دائماً للخير والجمال والسلام من خلال قصائد ونصوص متعددة الدلالات والمعاني، وتنوعت ما بين الغزلية والوطنية، وفي بعضها نصوص تأملية إشراقية جاءت نتيجة قراءة النفس، بل الإمعان في ماهية الروح ومحاولة تهجي بعض مفردات دروبها وأسئلتها الكبرى.
وتوقفتُ معه في محراب قصيدة”إذا ما الحمام بهول الحروب أضاع الهديل” وبالاقتراب من وجع الحرب “ووزع على أمهات المخيم صبراً جميلاً” إذ دخلت بمتن التضمين من القرآن الكريم وسورة يوسف.
“براهين ذاك القميص/الموشى بحزن الذئاب/وأينك يوسف…أين أبوك” في إشارة إلى الخيانة بإسقاط واقعي على خيانة بعض أبناء الوطن، فإلى أي حد يكون الشاعر قادراً على تضمين الواقع بفنية شعرية؟
لأن الشاعر ابن بيئته ومن البداهة أن يكون الأكثر قدرة على التقاط ومعايشة هموم وآلام وعذابات الناس البسطاء وتوظيفها فنياً في نص إبداعي ما، وقد تتفاوت درجات نجاحه بين نص وآخر، لا بل بين مقطع وآخر ضمن القصيدة الواحدة وهذا طبيعي جداً، ومن أكثر المشاهد التي يعيشها الشاعر بشكل شبه يومي في السنوات الأخيرة الماضية، سنوات الحرب والفقد والغربة والاغتراب مشاهد التشييع، تشييع أبناء بلد ووطن مازال يمعن بالنحولة والوجع والبكاء، فكيف سيكون حال أبنائه لاسيما الشعراء، ثمة مشاعر لا يمكن ترجمتها بشكل يليق بمفهوم الشهادة والاعتزاز والفخر الذي يشعر به الأب أو الابن أو الأم حينما يزفون لهم ولدهم شهيداً في سبيل عزة سورية وحريتها وعظمتها، نعم هي الحرب بكل مفرداتها وأظهرت بشكل واضح وجلي أن أبناء سورية هم سلالة قمح وشمس ونور وماء، لأنهم كل هذا وأكثر انتصروا بثقافتهم الطافحة بالياسمين وبالجمال والخير وبكل مفردات حضارتهم على قبح العالم ومشاريع الكفر والتكفير بثقافة الحياة والحرية على ثقافة الموت والعبودية، نعم هم السوريون لايمكن إلا أن يكونوا أبناء النصر والحب والحياة.
التقطيع الحروفي”ال- م-ا-ء- وتكرار أحد الحروف مثل”نووووووون” تقنية ضمن التقنيات التي توظفها بمتن القصيدة فما دلالتها لديك؟
حين يكتب الشاعر قصيدته أخال بأنه لايفكر ولا يحدد بأية طريقة سوف يكتبها، ولا بأي لون أو مذهب أو شكل شعري، وأيضاً أخال بأنه لايسعى إلى توظيف تقنية ما، لا بل أرى أن فنية وتقنية القصيدة بكل مكوناتها النصية الإبداعية، هي نتيجة تبلور ونضوج مفهوم الشعر والشعرية لدى كاتبها وتنامي وتطور الموهبة، حينها تأتي القصائد ترفل بالدهشة والألق والفنية التي تخلق رؤيتها التي تحمل القصيدة، وقد تتضح في نص بعض التضمينات لتأتي قيمة مضافة إلى النص، فيسلط الضوء على حقائق تاريخية مثل شخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري في قصيدة أسئلة برسم الذات، والذي كان صاحب أول صرخة ثورية صرخة الحق في وجه الباطل، والتي أتت نتيجة الفهم الحق والأصيل للدين وللحياة، والتاريخ يؤكد مرة تلو أخرى أنه يعيد نفسه.
جمعت بين التفعيلة والنثر وحفلت قصائد التفعيلة بسمات الجرس الموسيقي مثل قصيدة رفقاً بكرمي” والتضاد والجناس، فهل أنت مع الدمج بين الأساليب؟
الشاعر حينما يكتب نصه لا يتعمد إتباع اللون أو المذهب الشعري أو المدرسة، بل القصيدة تختار بأيّ لبوس شفيف تخرج فيه إلى الشاعر، ليضيف إليها من زخارف تزيدها حيوية وجمالاً، وأنا غير متعصب لأيّ لون شعري وأنادي بأن تكون الشعرية هي المعيار الوحيد في قبول أو رفض القصيدة بعيداً عن التعصب والأهواء للمذهب أو اللون، فالشعر شعر بأيّ لبوس جاء، ومن جهة أخرى أرى أنه لا يضير النص الشعري العمودي إن تخلله مقطع تفعيلة، ولكن النثر يبقى ببهاء حضوره ودهشة تكثيفه ورمزيته التي تدفعه دائماً ليتقدم صفوف الإبداع الحقيقي.
كيف ترى المشهد الشعري الآن؟
بما أن الشعر هو الشكل الأرقى من أشكال النشاط الإنساني، فإنني أرى أن الشعر ليس معافى على الرغم من وجود قامات شعرية أصيلة وتجارب هامة وجميلة، ولكن لو قمنا بذكر الأسماء الهامة شعرياً لخلصنا إلى نتيجة مفادها أن ثمة فراغات يتركها رحيل كتّاب كبار لم تملأ بعد، ولا يمكن لأحد أن يشغلها، ولا نجد أسماء هامة حالياً على الأقل بالمقارنة مع المراحل السابقة التي كانت حافلة بالمبدعين، فثمة من يكتب وبغزارة وينشر ويصدر مجموعات، ولكن أين الشعر؟ فمن الملاحظ أن غياب المعايير الحقيقية وضعف الحالة النقدية وغياب الجرأة بالقول والاستسهال بالكتابة، لاسيما قصيدة النثر والمحاباة والتصفيق المجاني، كل هذا ساهم بخلق هذه الفوضى، ولكن مازلنا نعوّل على بعض أصحاب الآراء النقدية الجادة بأن يكونوا أكثر جرأة للحد منها، وعلى بعض تلك الأصوات الشعرية الأصيلة.
ملده شويكاني