دراساتصحيفة البعث

موازين القوى بين العرب والعالم

ريا خوري

من الواضح تماماً أنَّ العلاقات العربية مع دول الإقليم ودول العالم قد وضعت العرب بين كفتي ميزان التقييم والحسابات، وهذا ما دفع مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية والأوروبية والصهيونية للقيام بمحاولة استقراء الواقع بعمق والإجابة عن العديد من الأسئلة التي تنظر في سياسات تلك الدول في منطقتنا العربية خاصة ومنطقة الشرق الأوسط عامة، وتقدير وتقييم حجم المصالح المتبادلة.
لقد كان مؤتمر وارسو تعبيراً عن نهاية مرحلة مهمّة في ما أُطلق عليه الصراع العربي- الصهيوني. هذه المرحلة كانت قد بدأت مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، الذي كشف الغطاء عن المستور بين الدول العربية والكيان الصهيوني، وأظهر (حجم المصالح المشتركة) بين الصهاينة من جميع الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرفة والطغاة الأمنيين في العديد من العواصم العربية. وخلال بضعة أعوام تحوَّل نصر الولايات المتحدة الأمريكية السريع في العراق إلى هزيمة طويلة الأمد غير متوقعة لأحلام الإمبراطورية الأمريكية، حيث بدت إيران منتصرة حين مدَّت عمقها الاستراتيجي بشكل تدريجي حتى وصلت غرب مياه البحر الأبيض المتوسط مروراً بالعراق وسورية ولبنان، وتحت هذه المروحة الإيرانية، استكان الأردن وارتعش وتصاعدت لهجة الحرب التي أطلقها اليمين الصهيوني المتطرف ضد الشعب الفلسطيني والعربي، وبعد أعوامٍ قليلة تشكَّل حلف جديد واضح بمعالمه وضوح الشمس ضمّ مملكة آل سعود، ومصر والكيان الصهيوني، لمواجهة تمدّد ما سمّوه النفوذ الإيراني في المنطقة.
في المحصِّلة لم تكن احتمالات التغيير في حسابات الكيان الصهيوني تعني احتمال حلّ الصراع العربي- الصهيوني من خلال كفتين متساويتين بشروط معقولة وتتوافق مع الجانبين، وليست مفروضة فرضاً بل قسراً بقوة ضغط الولايات المتحدة الأمريكية وفرض مشاريعها التصفوية والتي آخرها صفقة القرن. من جانبها عملت الولايات المتحدة على تغيير وضع الميزان الذي لم يتح للعرب امتلاك إرادتهم السياسية، لكن هناك مواقف عربية عدة تقف في وجه تلك الإستراتيجية وتقف ضد عملية التصرف في بلداننا. مع العلم أنَّ هناك نُخَباً وأنظمة عربية تهرول نحو الكيان الصهيوني للمحافظة على الريعية والعائدات من غمار الثورات القائمة في المنطقة، وهناك أسباب تراها النخب الحاكمة أنها واقعية، وتتقاطع الأسباب بين الخوف المشترك من إيران والرغبة الشديدة في مواجهة الإسلام السياسي وخاصة نموذجه المسلَّح. وهنا تصبح الحاجة ماسة وضرورية لقوة ونفوذ اللوبي المؤيد للكيان الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو -أي اللوبي- دفع للاستمرار في الدعم السياسي والعسكري واللوجستي بكافة أشكاله لدول عربية، وهنا نرى تماماً كيف أن دولاً عربية ترى أن ما يجمعها مع الكيان الصهيوني أكثر بكثير مما يجمعها مع دول عربية مجاورة تقاسمت معها الأمن القومي العربي.
لقد تعاملت بعض النُخَب العربية في علاقتها مع الكيان الصهيوني من خلال الشعور بالدونية تجاه الصهاينة (المتفوقين)، هذه الدونية تجعلهم يقعون في وهم التفوق الديني والهويّاتي على الآخر ذاته، وتلك النُخَب الضالّة تجدها منتشرة من المحيط إلى الخليج تمثِّلُ بلداناً محكومة بالسلطة والقوى الأمنية القابضة على الناس بيد من حديد، وتمارس شراء الولاءات والمحسوبيات. وهذا يولِّد عجزاً كبيراً وخطيراً في آن معاً، ويقع في مستنقع من التضليل والخداع والكذب الذي بات فقهاً والذي يمتاز بالفشل والتبعية، لما تعنيه مصالح أمتنا العربية في مجال الأمن القومي العربي خارج سياق استقرار النظام الحاكم، وهو نظام ضيِّق اقتصادياً وسياسياً.
في تلك البلاد يمكنك أن تجد المتحدثين باسم الدولة وهم من المثقفين وأساتذة الجامعات والصحافيين يبجِّلون القضية الفلسطينية، لكنهم في الواقع لا يحبون فلسطين ولا شعبها المناضل المرابط إلى يوم الدين. ويسعون إلى التطبيع وتقوية العلاقات مع الكيان الصهيوني، وفي الوقت نفسه يعبِّرون عن كرههم (للإسرائيليين). أما المعارضون في معسكرات بقايا القومية العربية السياسية أو الإسلام السياسي السلفي، فتختلف آراؤهم ومواقفهم ولا قيمة فعلية لها من ناحية التأثير على أرض الواقع، ولا تساعد كثيراً على استقراء الموقف وتحليله وتظهر أسباب الوصول إلى هذه الحال، وبالتالي نلحظ بدقة أساليب تحسين وتطوير العلاقات العربية- الصهيونية.
لقد قدَّمت مراكز الدراسات والأبحاث في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ودول إقليمية في المنطقة رؤى أنَّ وضع الميزان ما زال على حاله دون أي تغيير، وهذا يسمح لإستراتيجيتها باستمرار تمدّد النفوذ في المجال الأمني لبعض الدول العربية. في مقابل ذلك، مسَّ التخوّف الجميع، لكن الحقيقة هي أنه لو وضع العرب أيديهم على مفاتيح حقيقية للمنظومة الشاملة لكانت تغيّرت موازين القوى. من خلال التركيز على الدراسات والأبحاث العلمية الواقعية والحقيقية، يمكن للعرب أن يدخلوا عصر التقدم والتنافس الإبداعي والعلمي، وبالتالي ظهور ما يمكن أن نطلق عليه تسمية مشروع قومي عربي تكاملي في المجال الاقتصادي والتنمية الشاملة، والدفع باتجاه إيجاد الآليات التي تدفع للقيام بأفضل العناصر للمواقع القوية القادرة على بعث الصحوة والنهضة العربية، مع العلم أننا في سورية كنّا وما زلنا داعمين للعمل العربي المشترك على الرغم من الاعتداءات على مجتمعنا ودولتنا من دول عربية تشاركنا الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي والأمن القومي، وذلك من أجل التخطيط المنطقي والواقعي الاستراتيجي لمنظومة الأمن القومي العربي.
لقد عملت الأطراف الخارجية على إيجاد خلل في القدرات العربية الذاتية، وباعترافهم الصريح بممارسة الفوضى الخلاَّقة بكل أدواتها، مستخدمين كل أدوات الإرهاب السيبراني لنشر الصراعات والنزاعات الطائفية والمذهبية والإثنية، وإشعال الحروب المحلية (الحرب الأهلية) والحروب الإقليمية، وهو ما يسمح بفتح أبواب تلك الدول لاقتحام الميليشيات الإرهابية لحدودها كي تعيث فساداً في مدنها وبلداتها وقراها، إلى أن تصل إلى حالة من الدمار والتدهور، مما يؤهِّل القوى الدولية والإقليمية أن تلعب دورها وفق أسسها ومنهجها الاستراتيجي في تحقيق أطماعها وسرقة ثرواتنا ومقدرات شعوبنا، وليس هذا فحسب بل تسلب الأرض أيضاً وتزيد من توسعها على حساب أرضنا العربية. فتركيا لم تتوقف قواتها عن الزحف باتجاه أراضينا، وما زالت تقيم القواعد العسكرية في معظم المناطق المحاذية لحدودها، بل تجاوزت ذلك عندما أرسل مجرم الحرب أردوغان قواته وميليشياته الإرهابية إلى ليبيا في خطوة واضحة تعتبر تهديداً مباشراً للأمن القومي العربي. فالطامعون يمتلكون كل أدوات تشغيل تلك القوى، لكن هناك دولاً صغيرة تمكّنت من خلال وضع خطط إستراتيجية مدروسة بعناية فائقة أن تجعل من نفسها قوة منافسة اقتصادياً على الصعيد العالمي، وبالتالي تمكّنت من أن تحوز على دور إقليمي ودولي، وبات يحسب لها حساب كبير في ميزان العلاقات الدولية والإقليمية.